الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم من جاهد في سبيل الله بنية محو ذنوبه

السؤال

قال رسول الله صلوات الله عليه وسلامه: "من لم يغز أو تحدثه نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية" وفى الجهاد فضل كبير، والشهيد له خصال وكرامات عند الله، ولكن كيف نحقق نية الموت في سبيل الله، فمثلا هل تختلف نية من قاتل ليموت لتمحى عنه ذنوبه عن من قاتل في سبيل الله؟ إن كانت تختلف فكيف نحققها "شهيد في سبيل الله" مع العلم أننا نحب أن تكون راية التوحيد أن تبقى على القمة، ولا يفرحنا حال الأمة اليوم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمن عمل عملا صالحا، وابتغى من ورائه مقصدا شرعيا لا ينافي الإخلاص، فلا حرج عليه، قال الدكتور عمر الأشقر في رسالته العلمية (مقاصد المكلفين): المقاصد الخيرة هي التي يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، أو يقصد المصالح التي أجاز الشارع للمكلف قصدها. اهـ.
وقال أيضا: المقاصد تتنوع فيما بينها، ذلك أنَّ العباد يقصدون ربهم من جوانب مختلفة، فمنهم الذي يعبده تعظيما له وتوقيرا، ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته، ومنهم الذي يطلب رضوانه ورضاه، ومنهم الذي يقصد الأنس به والتلذذ بطاعته وعبادته، ومنهم من يرجو التنعم برؤيته في يوم لقياه، ومنهم من يطلب ثوابه من غير أن يستشعر ثوابا معينا، ومنهم من يطلب ثوابا معينا، ومنهم من يخاف عقابه من حيث الجملة غير ناظر إلى عقاب معين، ومنهم من يخشى عقابا معينا، وتنوع المقاصد باب واسع، والعبد قد يقصد هذا مرة، وهذا مرة، وقد يقصد أكثر من واحد من هذه المقاصد، وكلّها تنتهي إلى غاية واحدة، وتعني في النهاية شيئًا واحدا، أنّ العبد يريد الله سبحانه، ولا يريد سواه، وكل ذلك محقق للإخلاص، وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم، وعلى الهدى والصواب. اهـ.
ولا ريب في أن محو الآثام ومغفرة الذنوب من المقاصد المشروعة للجهاد في سبيل الله ونيل منزلة الشهادة، فعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر. رواه مسلم. قال النووي: فِيهِ أَنَّ الْأَعْمَال لَا تَنْفَع إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاص لِلَّهِ تَعَالَى... وَالْمُحْتَسِب هُوَ الْمُخْلِص لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَاتَلَ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ لِغَنِيمَةٍ أَوْ لِصِيتٍ أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ هَذَا الثَّوَاب وَلَا غَيْره. اهـ.
وبهذا يتبين أنه لا يتعارض قصد المغفرة مع كون الجهاد في سبيل الله يكون لإعلاء كلمة الله، وإنما يتعارض ذلك مع قصد أعراض الدنيا من الصيت والشهرة، أو المتاع والغنيمة، أو العصبية الجاهلية، ونحو ذلك من المقاصد السيئة، قال الدكتور الأشقر: إذا ابتغى المكلف بالعبادة غير ما شرعت العبادة له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في هذه الحالة غير صحيح، والأدلة على ذلك كثيرة... اهـ.
ومع هذا فينبغي للمجاهد أن لا يخلو قصده بجهاده من أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن ينصر دين الله سبحانه والمستضعفين من المسلمين، وراجع الفتوى رقم: 215626.

ومن باب زيادة الفائدة فإنا ننبه على أن الآثار الدنيوية التي رتبها الشارع على الأعمال الصالحة لا تتنافى محبتها والرغبة فيها مع الإخلاص، وقد سبق لنا بيان ذلك وبيان أنه لا حرج في ملاحظة الوعود الدنيوية عند القيام بالأعمال الصالحة، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 55788، 70340، 129078. وقد سئل الشيخ ابن عثيمين: بعض الناس يقول: إني لا أزكي مالي أو لا أتصدق إلا بقصد نماء هذا المال والبركة فيه فما توجيهكم؟ فأجاب بقوله: لا بأس بذلك، وقد نبه الله على مثل ذلك في قول نوح عليه السلام لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مدْرَاراً}، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما نقصت صدقة من مال»، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب أن يُنسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه»، ولكن لم يجعل الله عز وجل هذه الفوائد الدنيوية إلا ترغيباً للناس، وإذا كانوا يرغبون فيها فسوف يقصدونها، لكن من قصد الآخرة حصلت له الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} يعني نعطيه الدنيا والآخرة، أما الاقتصار في أداء العبادة على رجاء الفوائد الدنيوية فقط فلا شك أن هذا قصور في النية سببه تعظيم الدنيا ومحبتها في قلب من يفعل ذلك. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني