الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أسباب الإعراض عن الإيمان، ودركات العذاب في النار

السؤال

أولاً: بارك الله فيكم ووفقكم بما تعملون.
ثانياً: أنا يراودني سؤال منذ سنين، أكثر البشر على هذا الكون يهود وكفار إلخ، لماذا لا يسلمون؟ أو يبحثون عن الدين الصحيح وهو ديننا والحمد لله الذي ولدنا ونحن مسلمين هذه نعمة من الله عز وجل، وهم هؤلاء يعلمون أن كل شيء في الكون والسماء وتكونات الأرض، ومن أين جاء الماء بها، ونهاية هذا الكون أي يوم القيامة، مواضيع كثيرة، إلخ، مذكور من كلام الله في القرآن قبل أن يأتي كل شيء، وقبل أن ينتهي كل شيء، هل هذا جهل منهم؟ أم أنه لا أحد أخبرهم؟ أم هم لا يريدون الإسلام؟
ولماذا لا يحسبون لمصيرهم يوم القيامة وإغلاق باب التوبة؟ وإن الدنيا فانية، قال تعالى: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ولماذا يحاربون ديننا والمسلمين، وأخيراً: هل يعذبون هم في القبر ويوم القيامة أكثر من غيرهم؟ أم فيه فرق بين الجاهل والمشرك، والذي يعرف ما يجب مما أمر الله به من فعل أوامره واجتناب نواهيه؟
ولماذا الناس يجعلون الدنيا في أعينهم وألسنتهم وأفعالهم كأنها لن تزول، أو لا أحد يموت، ولا ينصرون دين الله وسنة نبيه، هل هذه فتنة من علامات الساعة؟
حقيقةً أنا أبكي على حال أمتنا أمة المليار من ظهور التقصير في الطاعة وكثرة المعاصي والعياذ بالله، واتباع ما يفعله الكفار والعياذ بالله، والتقصير في الطاعة.
وأخيراً جزاكم الله خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأما عدم إيمان كثيرين من اليهود وسائر الكفار؛ فقد غرتهم الحياة الدنيا فاستحبوها وأعرضوا عن الآخرة، وقد بين الله عز وجل لنا سببه في مواضع من القرآن؛ فقال: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل: 104 - 109]

قال السعدي: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} حيث ارتدوا على أدبارهم طمعا في شيء من حطام الدنيا، ورغبة فيه وزهدا في خير الآخرة، فلما اختاروا الكفر على الإيمان منعهم الله الهداية فلم يهدهم؛ لأن الكفر وصفهم، فطبع على قلوبهم فلا يدخلها خير، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلا ينفذ منها ما ينفعهم ويصل إلى قلوبهم، فشملتهم الغفلة وأحاط بهم الخذلان، وحرموا رحمة الله التي وسعت كل شيء، وذلك أنها أتتهم فردوها، وعرضت عليهم فلم يقبلوها. انتهى.

وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ* ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 130، 131].

قال ابن كثير: وقد فرطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها.

فهذه العلة الحقيقية، وقد لا يعرف كثير منهم أن الإسلام دين الحق، ولكن لانشغاله بالحياة الدنيا لا يهمه أمر الآخرة، ولا يبحث عن الدين الصحيح مع أن دواعي الفطرة تناديه، وهو يدفع مقتضى الفطرة من قلبه، ويقبل على حطام الدنيا؛ قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم: 30، 31]

قال ابن كثير: يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره... انتهى.

فوصفهم الله بأنهم لا يعلمون، ومع ذلك لم يجعل ذلك عذراً لهم بل أمرهم بإجابة داعي الفطرة بلزوم الدين الحق.

ولذلك هم يكرهون ذكر الموت؛ لأنهم لا يريدون الاستعداد له، وقصارى همهم تحصيل الشهوات والمتع؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ {محمد:12}.

قال ابن كثير: أي: في دنياهم، يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام، خضما وقضما وليس لهم همة إلا في ذلك. انتهى.

وبالتالي، فلا تعجب لحربهم المسلمين؛ فهم لا يريدون أن تقوم قائمة لهذا الدين القائم على توحيد الله وحده، والذي يحرم الخبائث، وينبذ الظلم، ويربي أتباعه على مقتضى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذاريات:56} الآية

وأما التفاوت في العذاب في القبر، وفي الدنيا فثابت، فالكفر يتفاوت، وقد ذكر ابن القيم في طريق الهجرتين طبقاتهم فقال: الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان....

الطبقة الخامسة عشرة: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله [ورسوله]، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء: 145] ، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] ، ومثل هذا اللفظ يقتضى الحصر، أي لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم؛ بل هذا من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف،....

الطبقة السادسة عشرة: رؤساء الكفر وأئمته، ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإيمان وعن الدخول في دينه رغبة ورهبة فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس عن الدخول في الإيمان، قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ} [النحل: 88] فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدهم عن سبيل الله. ...

الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أُولئك أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب.
وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام .انتهى.

ثم يقول في ذكر ما يُغلظ الكفر، ويجعل طبقة صاحبه أشد من غيره: وغلظ الكفر الموجب لغلظ العذاب يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: من حيث العقيدة الكافرة في نفسها، كمن جحد رب العالمين بالكلية، وعطل العالم عن الرب الخالق المدبر له، فلم يؤمن بالله وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر، ولهذا لا يقر أرباب هذا الكفر بالجزية عند كثير من العلماءِ، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم اتفاقاً لتغلظ كفرهم، وهؤلاءِ هم المعطلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنه لا وجود للرب سبحانه وتعالى غير وجود هذا العالم.
[الجهة الثانية] : تغلظه بالعناد والضلال عمداً على بصيرة، ككفر من شهد قلبه أن الرسول حق لما رآه من آيات صدقه، وكفر عناداً وبغياً، كقوم ثمود، وقوم فرعون واليهود الذين عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءَهم، وكفر أبي جهل وأُمية ابن أبي الصلت وأمثال هؤلاء.
الجهة الثالثة: السعي في إطفاءِ نور الله وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم، فهؤلاءِ أشد الكفار عذاباً بحسب تغلظ كفرهم، ومنهم من يجتمع في حقه الجهات الثلاث، ومنهم من يكون فيه جهتان منها أو واحدة، فليس عذاب هؤلاءِ كعذاب من هو دونهم في الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون من أذاه في سلامة لا ينالهم منه أذى، ولم يتغلظ كفره كتغلظ هؤلاءِ، بل هو مقر بالله ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر.
وإن شارك أولئك في كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعاً من الكفر، وهل يستوي في النار عذاب أبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأبي ابن خلف وأضرابهم؟. انتهى.

ولا شك أن الإعراض عن طاعة الله عز وجل والإقبال على الدنيا وانتشار المعاصي دليل على قرب الساعة، وتراجع الفتوى رقم: 36791.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني