الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير الآية: لكم دينكم ولي دين

السؤال

أريد أن أعلم كل ما يخص الآية الأخيرة في سورة الكافرون: "لكم دينكم ولي دين"؛ كسبب النزول، والتفسيرات الخاصة بهذه الآية.
أيضًا أود أن أعلم العلاقة بين هذه الآية والمقولة المشهورة "الدين لله والوطن للجميع"؛ فهل هما متناقضتان أم أن هذه المقولة تُقبل كتفسير لهذه الآية -مع الشرح في الحالتين إن أمكن-؟
وشكرًا جزيلًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد سبق لنا نقل تفسير هذه السورة من تفسير الحافظ ابن كثير، وذلك في الفتوى رقم: 98290. كما سبقت لنا الإشارة إلى الخلاف في نسخ الآية الأخيرة منها، وذلك في الفتوى رقم: 15808.
ولزيادة الإيضاح ننقل ما ذكره الماوردي في (النكت والعيون)؛ حيث قال: {لكم دِينكم ولي دينِ} فيه وجهان:

أحدهما: لكم دينكم الذي تعتقدونه من الكفر، ولي ديني الذي أعتقده من الإسلام. قاله يحيى بن سلام.

الثاني: لكم جزاء عملكم، ولي جزاء عملي. وهذا تهديد منه لهم، ومعناه: وكفى بجزاء عملي ثوابًا. قاله ابن عيسى. قال ابن عباس: ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك. اهـ.

ومن الواضح: أن مثل هذه المعاني والأخبار لا يدخلها النسخ! فما ذكره بعض المفسرين من نسخ هذه الآية ليس بسديد. وإنما قالوا ذلك لما ظنوه من المهادنة في ألفاظ هذه الآية، مما يتعارض مع آية السيف! قال ابن عطية في (المحرر الوجيز): قال بعض العلماء: في هذه الألفاظ مهادنة ما، وهي منسوخة بآية القتال! اهـ.
وقد تولى العلامة المحقق ابن القيم بيان الصواب في ذلك، فقال: هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه، هل هو إقرار فيكون منسوخا أو مخصوصا، أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف؛ لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم. وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب. وكلا القولين غلط محض؛ فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة، وعمومها نص محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه، وهذه السورة أخلصت التوحيد؛ ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم. ومنشأ الغلط: ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخ. وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم. فقالوا: هذا مخصوص. ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرا لهم أو إقرارا على دينهم أبدا، بل لم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشد في الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه، والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه، فأبى إلا مضيا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: "إن الآية اقتضت تقريره لهم"؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل. وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم، وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا؛ فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم. فأين الإقرار حتى يدعي النسخ أو التخصيص؟ أَفَتَرَى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}؟! بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده. وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم: هذه براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم، ولجهادهم بحسب الإمكان. اهـ.
ونوصي السائل بالرجوع إلى أول كلام ابن القيم في تعليقه على هذه السورة المباركة؛ فقد أطال، وأجاد، وأفاد، وذلك في كتاب (بدائع الفوائد1 / 133 : 141).
وإذا تبين أن هذه الآية ليس فيها إقرار للكافرين على كفرهم، وأنها محكمة في حق الذميين، كما إنها محكمة في حق الحربيين على السواء، فهي براءة من الكفر كله، ومفاصلة لجميع أهله. وتبقى كيفية المعاملة لأنواع الكافرين بعد مفاصلتهم جميعًا في الديانة والاعتقاد، تابعة لأحكام الشرع الذي يفرق بين الذميين ومن في حكمهم، وبين الحربيين ومن ظاهرهم، كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].
إذا تبين هذا تبين أنه لا علاقة لهذه الآية بتلك المقولة الباطلة: (الدين لله والوطن للجميع)!، والتي سبق لنا بين فسادها وخطرها في الفتوى رقم: 104150. ولمزيد الفائدة حول هذه الكلمة الخبيثة، وأصلها الفكري، ومقتضياتها، يمكن مراجعة كتاب (المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها 2 / 972 : 989) للدكتور/ غالب عواجي. وكتاب (كواشف زيوف ص 247 : 285) للشيخ/ عبد الرحمن الميداني.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني