الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وِجهة المستفتي عند تنوع فتاوى الفقهاء في المسألة الواحدة

السؤال

عندما أريد معرفة الحكم الشرعي في أمر فقهي كبير مختلف فيه، أو إذا كان أحد الرأيين شاقًّا عليّ، أقرأ أدلة الطرفين، ثم آخذ بالأكثر والأوضح أدلة، فإن لم يكن، فبمراعاة العملية في التطبيق، وما يناسب الزمان أو الحالة، ولكن إذا كان الأمر الفقهي يسيرًا، وغير كبير، ويكفيني فيه أي رأي، فأسأل فقط من أثق بعلمه، ولا أبحث في الأدلة.
1- فهل أنا آثمة وعلي اتباع نمط واحد أم لا؟
2- وهل إذا سألت جهة وكان رأيها متشددًا، ثم سألت غيرها للبينة، ثم المقارنة بينهما في ضوء ما سبق، أكون قد أخطأت؟
وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلم نفهم على وجه التحديد ما تقصدينه بقولك: "فإن لم يكن، فبمراعاة العملية في التطبيق، وما يناسب الزمان أو الحالة.." كما أننا لم نفهم معنى كونك تأخذين الأوضح أدلة، فإن كنت تقصدين أنك تأخذين بالأقوى دليلًا؛ فهذا أمر حسن، وإن كنت تقصدين أنك تأخذين بالقول الذي فهمت دليله، وتتركين القول الذي لم تفهمي دليله؛ فهذا غير صواب؛ لأن فهمك للدليل وعدم فهمك له لا ينبغي أن يكون هو معيار الرجحان بين الأدلة.

وعلى أية حال؛ فإننا ننبه إلى عدة أمور، لعلك إذا نظرت إليها بتأنٍّ عرفت الصواب فيما تسألين عنه:

1- أن من كان من أهل النظر في الأدلة فليس له أن يحيد عن الدليل، ولكن النظر في الأدلة والأحكام الشرعية ليس لكل الناس، وإنما هو لأصحاب النظر والاستدلال. وراجعي فتوانا رقم: 11773 بعنوان: العامي ليس أهلًا للنظر في الأحكام الشرعية.
2- أن الأخذ بقول الأكثر إنما يكون صوابًا إذا لم يعلم أنه مخالف للراجح في المسألة. وراجعي فتوانا رقم: 47787 بعنوان: الحق ما وافق الدليل وإن قل القائلون به.

3- أن على العامي إذا خفي عليه حكم المسألة أن يستفتي من يثق في علمه وورعه، وله أن يعمل بما أفتاه به من غير احتياج إلى سؤال غيره. وراجعي في هذا فتوانا رقم: 62133 بعنوان: من أجابه عالم يثق بعلمه وتقواه فليعمل بما أفتاه به.

4- أنه لا حرج في سؤال أكثر من عالم أو جهة عن المسائل المختلف فيها، وعن أدلتهم عليها إذا كان ذلك للتعلم ومعرفة الراجح والتثبت من أدلته؛ قال صاحب المراقي:

ولك أن تسأل للتثبتِ عن مأخذ المسؤول لا التعنّتِ.

ثم عليه غاية البيانِ إن لم يكن عذر بالاِكتنانِ.

5- أن العامي إذا استفتى أكثر من عالم في مسألة معينة، واختلفت عليه فتاوى الفقهاء فيها فقيل: يأخذ بالأشد لكونه أحوط، ولحصول براءة الذمة به بيقين. وقيل: يأخذ بأيّ الأقوال شاء ما لم يقصد تتبع الرخص. وقيل: يأخذ بالأيسر لكون الشريعة مبناها على اليسر والتخفيف. وهذا القول الأخير هو الذي رجحه ابن عثيمين -رحمه الله- حيث حكى الأقوال الثلاثة في فتاوى نور على الدرب، ورجح الأخذ بالأيسر فقال: "ومسائل العلم يجب على الإنسان أن يتبع مَن يرى أنه أقرب إلى الصواب؛ إما لغزارة علمه، وإما لثقته وأمانته ودينه. فإن لم يعلم أيهما أرجح في ذلك، فقد قال بعض أهل العلم: إنه يُخير؛ إن شاء أخذ بقول هذا، وإن شاء أخذ بقول هذا. وقال بعض العلماء: يأخذ بما هو أحوط؛ أيْ: بالأشد؛ احتياطًا وإبراءً للذمة. وقال بعض العلماء: يأخذ بما هو أيسر؛ لأن ذلك أوفق للشريعة، إذ أن الدين الإسلامي يسر، كما قال الله تبارك تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)، وكما قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وكما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (إن الدين يسر)، وكما قال وهو يبعث البعوث: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). أي: أنه إذا اختلفت آراء العلماء عندك، وليس عندك ترجيح، فإنك تأخذ بالأيسر لهذه الأدلة، ولأن الأصل براءة الذمة، ولو ألزمنا الإنسان بالأشد للزم من ذلك إشغال ذمته، والأصل عدم ذلك، وهذا القول أرجح عندي، أي: أن العلماء إذا اختلفوا على قولين وتكافأت الأدلة عندك في ترجيح أحد القولين، فإنك تأخذ بالأيسر منهما، وهذا -أعني: القول بالأخذ بالأيسر- فيما يتعلق بنفس الإنسان، أما إذا كان يترتب على ذلك مفسدة، فإنه يمتنع من إظهار ذلك وإعلانه... وعلى هذا؛ فنقول: القول الصحيح: أن نأخذ بالأيسر ما لم يتضمن ذلك مفسدة، فإن تضمن ذلك مفسدة، فليأخذ بالأيسر في حق نفسه فقط". وراجعي في هذا فتوانا رقم: 170671 بعنوان: موقف المستفتي عند اختلاف العلماء وتكافؤ الأدلة.

6- أنه لا يجوز تتبع رخص المذاهب، وكنا قد بينا ذلك مفصلًا في الفتوى رقم: 213079 بعنوان: مآل تتبع رخص المذاهب.

7- أن الأخذ بالرخصة عند الحاجة ليس من تتبع الرخص المذموم، وراجعي في هذا الفتوى رقم: 134759 وهي بعنوان: تتبع الرخص.. رؤية شرعية.

وبناء على ما ذكر تعلمين أنه لا حرج عليك في الاكتفاء بسؤال من تثقين بعلمه دون الغوص معه في الأدلة، كما لا حرج عليك في سؤال أكثر من شخص مع التثبت من الأدلة.

وأما ما ذكرته من أنه إذا كان أحد الرأيين شاقًّا عليك، فإنك تقرئين أدلة الطرفين، ثم تأخذين بالأكثر والأوضح أدلة، فإن لم يكن، فبمراعاة العملية في التطبيق، وما يناسب الزمان أو الحالة، فهذا إذا لم يكن فيما ذكرناه ما يمكن أن يؤخذ منه جوابه، فنرجو أن تبيني لنا قصدك منه على وجه التحديد.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني