الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

لم أفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها.
فهل لكم أن تبينوا لي معنى الحديث؟ وهل يبدأ بالتيمم، أم بالمسح على الخرقة؟ وهل يتوضأ قبلها أم ماذا؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فقد روى أبو داود وغيره من حديث جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. اهـ.

وأما شرح الحديث: فقوله صلى الله عليه وسلم: "قتلوه" أي تسببوا في قتله، حين أفتوه بجهل بأن يغسل موضع الجرح، فأسند القتل إليهم؛ لأنهم تسببوا له، بتكليفهم له باستعمال الماء مع وجود الجرح في رأسه، ليكون أدل على الإنكار عليهم.

وقوله: "قتلهم الله" أي لعنهم، كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ {عبس:17}، أي لُعِنَ الإنسان.

قال بعض الشراح هذا دُعَاء عَلَيْهِمْ، وأنهم استحقوا الدعاء عليهم جزاء ما تسببوا فيه من موت الرجل.

قال الإمام ابن القيم: فدعا عليهم لما أفتوا بغير علم. انتهى.
وقوله: "ألا سألوا إذ لم يعلموا" أي هلا سألوا، فيه حض على السؤال عند الجهل، فلم لم يسألوا حين جهلوا الحكم.
وقوله: "إنما شفاء العي السؤال" والمعنى: أن الجهل داء، شفاؤه السؤال، والتعلم.
وقوله: (إنما كان يكفيه) أي: الرجل المحتلم. (أن يتيمم) أولاً. (ويعصب) أي: يشد. (على جرحه خرقة) أي: حتى لا يصل الماء إلى الجرح (ثم يمسح عليها) أي: على الخرقة بالماء.
وأما عن الجمع بين المسح، والتيمم، والترتيب بينهما: فالعضو المصاب لا يخلو من أمرين:

أولهما: أن يكون مستورا بجبيرة ونحوها، وقد نص الفقهاء على أنه لا يُجمع في هذه الحال بين التيمم، والمسح على العضو المصاب، إلا إذا كانت الجبيرة جاوزت قدر الحاجة، فيُتيمم حينئذ عن مكان الجرح، ويُمسح عما غطته الجبيرة من البدن الصحيح، ويُغسلُ بقية البدن.

قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: (يَجِبُ التَّيَمُّمُ) لِخَبَرِ الْمَشْجُوجِ السَّابِقِ، وَهَذَا التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ، وَمَسْح السَّاتِرِ لَهُ، بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ مَا تَحْتَ أَطْرَافِهِ مِنْ الصَّحِيحِ، كَمَا فِي التَّحْقِيقِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ أَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا تَحْتَ الْجَبِيرَةِ. وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّاتِرُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ فَقَطْ، أَوْ بِأَزْيَدَ، وَغَسَلَ الزَّائِد كُلَّهُ، لَا يَجِبُ الْمَسْحُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَإِطْلَاقُهُمْ وُجُوب الْمَسْحِ، جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَنَّ السَّاتِرَ يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى مَحِلِّ الْعِلَّةِ، وَلَا يُغْسَلُ ... اهـ.

وإذا جمع بين التيمم، والمسح، مع الغسل، فإنه في الطهارة من الحدث الأكبر يخير بين:

1 ) أن يبدأ بالتيمم، فيتيمم أولا، ثم يمسح على الجرح، ثم يغسل سائر جسده. وهذا الترتيب هو الذي جاء به الحديث.

2 ) أو يمسح، ثم يغسل سائر جسده، ثم يتيمم.

3 ) أو يغسل جسده، ثم يمسح على موضح الجرح، ثم يتيمم.

وذلك أن الترتيب ليس واجبا في الغسل، والمهم أن يعم سائر جسده بالغسل، ويتيمم عن الجرح.

قال النووي في المجموع: وَأَمَّا وَقْتُ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا مَسَحَ مَتَى شَاءَ إذْ لَا تَرْتِيبَ عَلَيْهِ ... اهــ.

وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: إنْ كان الْجُنُبُ جَرِيحًا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ تَيَمَّمَ لِلْجُرْحِ قبل غَسْلِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ شَاءَ غَسَلَ الصَّحِيحَ، وَتَيَمَّمَ بَعْدَهُ. اهـ.

ثانيهما: أن يكون العضو المصاب مكشوفا ليس عليه جبيرة، فإنه يغسل الصحيح، ويتيمم عن العضو المصاب، ولا يمسح عليه. قال النووي في المجموع: فَيَجِبُ غَسْلُ الصَّحِيحِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ هُنَاكَ، وَيَجِبُ التَّيَمُّمُ مَعَ غَسْلِ الصَّحِيحِ، وَلَا يَجِبُ مَسْحُ مَوْضِعِ الْكَسْرِ بِالْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ بِالْمَاءِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ ... اهـ.

وقال ابن قدامة في المغني: وإذا لم يكن على الجرح عصاب، فقد ذكرنا فيما تقدم أنه يغسل الصحيح، ويتيمم للجرح ... اهـ.

ويرى بعض الفقهاء أنه يمسح العضو المصاب ولا يتيمم، فإن تعذر المسح تيمم له.

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في الشرح الممتع: الجُرحُ ونحوَه إِما أن يكون مكشوفاً، أو مستوراً. فإِن كان مكشوفاً فالواجبُ غسلُه بالماء، فإِن تعذَّر فالمسحُ، فإِن تعذَّر المسحُ فالتيمُّمُ، وهذا على الترتيب. اهـ.

وقولك: "هل يتوضأ" إن كنت تعني قبل غسل الجنابة: فإن الوضوء في أول غسل الجنابة سنة مستحبة، ولا يجب، والواجب هو تعميم البدن بالماء.
وإن كنت تعني هل يتوضأ إذا أراد الصلاة: فإن نية الطهارة من الحدث الأكبر تكفي عن الوضوء، فمن تطهر من الجنابة، جاز له أن يصلي من غير أن يتوضأ.

وقال أبو بكر بن العربي: لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وتقضي عليها؛ لأن موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث، فدخل الأقل في نية الأكثر، وأجزأت نية الأكبر عنه. اهــ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني