الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إيذاء النفس في سبيل الله؛ المشروع منه وغير المشروع

السؤال

ما حكم من يؤذي نفسه في سبيل الله؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فهذا الإيذاء له صور متعددة؛ منها المشروع، ومنها غير المشروع، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يتكلف أنواعًا من العبادات الشاقة، ويقول: أريد أن أقتل نفسي في الله!
فكان مما أجاب به: هذا كلام مجمل، فإنه إذا فعل ما أمره الله به، فأفضى ذلك إلى قتل نفسه، فهذا محسن في ذلك، كالذي يحمل على الصف وحده حملًا فيه منفعة للمسلمين، وقد اعتقد أنه يقتل، فهذا حسن ... وقد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب: "أن رجلًا حمل على العدو وحده فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: لا، ولكنه ممن قال الله فيه: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد}. وأما إذا فعل ما لم يؤمر به حتى أهلك نفسه، فهذا ظالم متعد بذلك، مثل أن يغتسل من الجنابة في البرد الشديد بماء بارد يغلب على ظنه أنه يقتله، أو يصوم في رمضان صومًا يفضي إلى هلاكه، فهذا لا يجوز. فكيف في غير رمضان؟! ... فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو تسببه في ذلك، وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له. كما قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} .. والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة، لا بما يستحسنه المرء أو يجده أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة؛ بل قد يكون أحد هؤلاء كما قال عمر بن عبد العزيز: "من عبد الله بجهل أفسد أكثر مما يصلح". ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا، ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع، كان أفضل؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل ... وأصل ذلك أن يعلم العبد أن الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا .. وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة: كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة .. وأما إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته فهذا فساد والله لا يحب الفساد .. اهـ.
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: كثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر. اهـ.
فتحمل المشاقِّ والأذى ليس مطلوبًا لذاته، حتى يتقصده العبد، بل الأجر فيها لاستلزام العبادة لها، ولما يترتب عليها من المصالح الشرعية، وقد عقد العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام فصلًا فيما يتفاوت أجره بتفاوت تحمل مشقته فقال: إن قيل: ما ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه أكثر مما يؤجر على الخفيف؟ قلت: إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقًّا فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله -سبحانه وتعالى-، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيمًا ولا توقيرًا ... وذلك كالاغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى الاغتسال في شدة برد الشتاء، فإن أجرهما سواء لتساويهما في الشرائط والسنن والأركان، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل مشقة البرد، فليس التفاوت في نفس الغسلين، وإنما التفاوت فيما لزم عنهما، وكذلك مشاق الوسائل في من يقصد المساجد والحج والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابيهما يتفاوتان بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هذه العبادات وشرائطها وأركانها، فإن الشرع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد، مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد ... قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المر البشع، فإنه ليس غرضه إلا الشفاء. اهـ.

وعلى ذلك؛ فمن الإحسان أن يتقصد العبد القيام بعمل صالح يحبه الله تعالى ويرضاه - وإن كان يعلم أنه يستلزم وقوعه في الأذى - فيتحمله طلبًا للعبادة وثوابها، لا لمجرد المشقة. بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به شرعًا حتى يهلك نفسه أو يلحق بها الأذى، فهذا نوع من الظلم والتعدي مخالف لمقاصد الشرع الحنيف، قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج/78]، وقال -عز وجل-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة/185]. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 139733.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني