الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تأويل قوله تعالى: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة

السؤال

عندي استفسار عن موضوع.
قال تعالى في القرآن الكريم: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)
لم أفهم الآية.
جملة: (الذين اتبعوك) بحسب ابن كثير هم المسلمون. طيب إذا كان تفسيره صحيحا؛ يصبح هناك تناقض؛ لأن المسلمين حاليا، وفي المستقبل على الأقل القريب، ومنذ زمن، وعبر فترات زمنية طويلة، النصارى هم الذين فوق المسلمين بالقوة، وبالمال، وبالعلم.
وإذا كانت جملة: (الذين اتبعوك) معناها (النصارى) معناها وبحسب الآية أن غير النصارى كفار.
أتمنى توضيح الآية.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا يخفى أن الفوقية المذكورة في الآية الكريمة، إنما هي وعد مقترن، ومقيد بوصف، وهو اتباع المسيح عليه السلام، فإذا اختل اتباعه، وانحرف المنسوبون له، وظهر الفساد فيهم بمعاصيهم، ومخالفتهم له، لم يستنكر تخلف هذا الوعد الرباني الكريم لتخلف شرطه، وعندئذ لم يكن هناك مانع من تسليط عدوهم عليهم؛ عقوبة لهم وتذكيرا.

قال السعدي: ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام، لم يزالوا قاهرين لليهود؛ لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود، حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة، فأيدهم الله، ونصرهم على اليهود والنصارى، وسائر الكفار، وإنما يحصل في بعض الأزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين، حكمة من الله، وعقوبة على تركهم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وهكذا وعد الله تعالى لأتباع الرسل بالغلبة، والتمكين في الأرض، يكون مشروطا بتحقيق الإيمان، والعمل الصالح، ومراعاة حدود العبودية لله رب العالمين، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].

قال السعدي: قام صدر هذه الأمة، من الإيمان، والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح. اهـ.
ولتعتبر في ذلك بحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف نصرهم الله تعالى على أعدائهم مع كثرة عددهم، وعظمة عدتهم وعتادهم.

قال ابن كثير: فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما، وأنفقت في سبيل الله. اهـ.

ومع ذلك، فإنه يحسن التنبيه على أن الفوقية المذكورة في الآية، تحتمل معنى الفوقية المعنوية بالحجة والبرهان، والخيرية والقرب من الحق.

وقد أسند ابن المنذر في تفسيره عن أبي عبيدة في معنى الآية قال: أي هم عِنْد اللهِ خير من الكفار. اهـ.
وقال أبو حيان في (البحر المحيط): الفوقية إما حقيقة، وذلك بالجنة، والنار. وإما مجازا أي: بالحجة والبرهان، فيكون ذلك دينيا. وإما بالعزة والغلبة، فيكون ذلك دنيويا، وإما بهما. اهـ.
وقال الرازي في تفسيره في الآية: وجهان: الأول: أن المعنى: الذين اتبعوا دين عيسى، يكونون فوق الذين كفروا به، وهم اليهود، بالقهر، والسلطان، والاستعلاء إلى يوم القيامة، فيكون ذلك إخبارا عن ذل اليهود، وأنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام، فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله، وأما بعد الإسلام فهم المسلمون، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته، فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث إن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال، ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم، وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكا يهوديا، ولا بلدة مملوءة من اليهود، بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة، وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك.

الثاني: أن المراد من هذه الفوقية، الفوقية بالحجة والدليل. اهـ.
وقال المراغي في تفسيره: هذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية، وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية: وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم. وفي هذا إخبار عن ذلّ اليهود، ومسكنتهم إلى يوم القيامة، وقد تحقق ذلك، فلا يرى ملك يهودي، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى. اهـ.
وقال أبو زهرة في تفسيره: الفوقية ليست هي القوة؛ فإن الأسد أقوى من الإنسان، ولكنه ليس فوقه، ولا أعلى منه، بل الفوقية هي فوقية الإدراك، والإيمان، والإخلاص؛ وذلك لأن سبب الفوقية هو الاتباع، والمسبب من جنس السبب، فالسبب معنوي روحي، فالفوقية روحية معنوية، فليست الفوقية إذن فوقية سيف وسنان، بل فوقية حجة وبرهان. ولقد قال الزمخشري في ذلك: "يعلونهم بالحجة، وفي أكثر الأحوال بها، وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون؛ لأنهم متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه، والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى. اهـ.
وقال الشعراوي في تفسيره: ليس المراد هنا من «فوق» الغلبة والنصر، ولكننا نريد من «فوق» الحجة والبرهان. وذلك إنما يحدث في حالة وجود قوم منصفين عقلاء يزنون الأمور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إلا قضية الإسلام، وعقيدة الإسلام. إذن، فالفوقية هي فوقية ظهور دليل، وقوة برهان. ولذلك قال الحق سبحانه: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون}. اهـ.
ومن أهل العلم من حمل الآية على بني إسرائيل خاصة، فيكون معناها: رفع النصارى الذين آمنوا بالمسيح على اليهود الذين كفروا به.

قال الطبري: قال آخرون: ومعنى ذلك: {وجاعل الذين اتبعوك} من النصارى، فوق اليهود. ثم أسند عن ابن زيد قوله: النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى، إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذلون. اهـ.
وقد ذكر ابن عرفة في تفسيره قول ابن زيد، ثم قال: وقد ظهر ذلك ـ يعني ذل اليهود، وجعل كل ملة فوقهم ـ ولله الحمد، وهو أحد المعجزات الدالة على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. اهـ.
ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني