الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ينبغي على المؤمن السعي في إزالة أسباب الهجر

السؤال

كان لي صديق، وهذا الصديق في يوم من الأيام كلمني في برنامج الواتساب بدون سابق إنذار، وقال: المعرفة التي بيني وبينك انتهت، وأرجو منك حذف رقمي، وحظرني في البرنامج، وأنا لا أحب أن أبدأ معه الحديث؛ لأن عزة نفسي تمنعني؛ كونه هو الذي اختار الفراق بيني وبينه، وسمعت حديثًا شريفًا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا، إلا امرؤ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا، اتركوا هذين حتى يصطلحا"، هل هذا الحديث ينطبق عليّ كوني أنا مسامحه، وليس بقلبي بغضاء تجاهه في غيابه؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأنت لم تذكر السبب الذي دعا صاحبك إلى هجرك، وإنهاء علاقته بك، ولا نرى أي مبرر لأن تمتنع عن سؤاله عن الأسباب، فقد يكون ذلك العمل بسبب وشاية حاسد، أو حاقد، أو ضعيف إيمان، فكان ينبغي أن تتواصل معه فتسأله، ولو برسالة نصية.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث، كما في الصحيحين: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيُعرِض هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.

فأنت قد قصَّرتَ من وجهين: من جهة أنك لم تستفصل منه عن سبب غضبه، ومن جهة أنك وافقته في الهجر، هذا مع أنه قد يكون موقفه منك ظلمًا، وسوء ظن، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ما قد يساء منه الظن به؛ ليسد باب الشيطان ومداخله على قلوب الناس، كما في الصحيحين عن أم المؤمنين صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب -أي: لأرد إلى منزلي-، فقام معي ليقلبني ـ أي: ليردني إلى منزلي ـ وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رِسلِكما، إنها صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا. أو قال: شيئًا.

فإن كان قد حكم عليك بخبر فاسقٍ، ولم يتبين منك، فقد ظلمك، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {الحجرات:6}، وبيانك الحقيقة له نصرٌ له بمنعك إياه عن الظلم، كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه من الظلم، فإنَّ ذلك نصره. رواه البخاري.

فالواجب عليك الآن أن تسعى لحل هذه المشكلة، وتبادر في إصلاح ذات بينكما، فإنَّ ترْك ذلك من أسباب عدم المغفرة عند رفع الأعمال، حتى يصطلح المتشاحنان، كما في الحديث الذي ذكرته في سؤالك. وخيركما الذي يبدأ صاحبه بالسلام كما مر.

قال الوزير ابن هبيرة في الإفصاح: وليس من التشاحن الرجلان يكون بينهما الحكومةُ، أو العرضُ، أو المعاملة، فيبغي أحدهما على الآخر، كما قال سبحانه: {وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض}، إلا أن هذا في الخلطاء من المؤمنين لا ينبغي أن يبلغ بهم إلى التقاطع والتهاجر، بل أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه، وأيسرهما لأخيه، وأصبرهما على رفيقه لقوله: (يلتقيان فيُعرِض هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
فأما المتشاحنان الذي ينصرف إليهما إرجاء الغفران؛ فإنهما قد يكونا متحاسدين، أو متكبرين، أو باغيين، أو متقاطعين، أو متنافسين، أو متماثلين، أو متقاربين، فليحذر المؤمن من هذه الحالة، وليغفرها لأخيه خائفًا أن يُفوِّته شحناء أخيه ودَّ ومحبةَ الله له، وليبادر الفيئة منها، فإن من استبدل من محبة الله، ومغفرته شحناءَ أخيه ممن يشمله قول الله عز وجل: {بئس للظالمين بدلا}. اهـ.

فإن بادرتَ إلى ذلك، وسعيتَ، فلم يستجب لك، أو لم تستطع الوصول إليه بشتى الطرق، وعجزت عن أن تلقاه، فقد أديت ما عليك، وزال عنك حكمُ الهجر وما يترتب عليه إن شاء الله، ففي سنن أبي داود: لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاثٌ فلْيلقَه، فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام، فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه، فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّم من الهجرة. وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح.

أما قولك: (تمنعني عزة نفسي من أن أبدأ معه؛ لأنه هو المخطئ)، فهذا مما يسوِّله الشيطان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يُعرِض هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. وقال: فإن مرَّت به ثلاثٌ.. فلْيلقَه، فليسلمْ عليه. ولم يقل: وخيرهما الذي يسامح الآخر، ولا يحمل عليه في قلبه شيئًا، ولا قال: فإن مرَّت ثلاثٌ، فليسامحْه، فإن الاكتفاء بالمسامحة في القلب يكون فيما إذا جَهِلَ عليكَ، ولم يحصل بينكما هجرٌ، أو إعلان قطيعة، أما وقد حصل ذلك فلا بد لك من أن تسعى في أسباب قطع الهجر بجوارحك، دون الاكتفاء بما في قلبك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني