الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

فضيلة المشايخ: كيف يكون عقل من يدخل الجنة؟ أهو نفس تفكيره وعقله لكن يعافى من الشواذ والاضطرابات النفسية الموجودة عند كل فرد من الناس نتيجة قسوة العيش في الدنيا، أم يتبدل إلى تفكير وعقل آخر؟ مع العلم أن تغير التفكير قد يعني تغير الشخص إلى شخص آخر. فَلَو سلمنا أن تغير العقل والتفكير لا يغير الفرد إلى فرد آخر لما عذب الله العاصين من المسلمين في النار ليُنَقوا ويدخلوا الجنة، فهم مصيرهم إلى الرحمة، والعدالة لا تحتم العذاب، بل الله قادر على رفع المظلوم وخفض منزلة الظالم في الجنة لتحقيق العدالة، إلى غير ذلك من وسائل يعلمها الله سبحانه. والأشياء التي لا يتقبلها ولا يرغب فيها الناس مما يسمعون عنه في الجنة هي من محض الجهل بمعانيها وعدم تحقق صورها في أذهانهم وهم في الدنيا، فرؤية صاحب الحورية لمخ ساق الحورية من خلال الجلد واللحم هو في الحقيقة دليل على جمال باطن الحورية غير المغشوش بقناع الجلد، فهي حسناء وإن سلخ جلدها، بخلاف أهل الأرض، فهل كلامي صحيح؟
أفتوني -وفقكم الله-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فعقول أهل الجنة وعلومهم لا تزول، بل تزداد قوة وصفاء وإدراكًا، وإنما الذي يزول هو آفاتها التي إن بقيت كدرت تنعمهم في الجنة، وللإمام الشوكاني بحث مختصر ذو صلة بهذا الموضوع، مطبوع ضمن (الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)، ومما قال فيه: والحاصل: أن الطوائف الإسلامية -على اختلاف مذاهبهم وتباين طرقهم- متفقون على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وإدراكًا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية، وكيف يسلبون ما هو عندهم من أعظم النعم، وأوفر القسم، وهم في دار فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟! اهـ.
وذكر من أدلة ذلك: تحاور أهل الجنة وأهل النار، وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلًا، وأوفر الخلائق فهما! وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم، بل ما يوَدّونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعم، قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} .. كما ثبت في الصحاح تركيب الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ: "بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" وكذلك ما ثبت من اجتماع أهل الجنة ومذاكرتهم، مما كانوا فيه في الدنيا، وما صاروا إليه في الجنة ... ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذو عقول صحيحة بالضرورة العقلية، كما ثبت بالضرورة الدينية. ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوي عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تحدد لها من العلوم، ذاكرة لما حصل لها منها من قبل، هذا ما لا يحتاج إلى بيان، ولا يفتقر إلى برهان. ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة ... وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة، والحواس الكاملة إلى حد يتقاصر عنه ما كان لهم من العقول والمشاعر في دار الدنيا. اهـ.
ومما يدل على وفور عقولهم وتخلصها مما يكدرها: قوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف: 43]، وقوله سبحانه: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصفهم: "قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض". وفي رواية: "على خلق رجل واحد" رواه البخاري، ومسلم.
ومما سبق يتبين للسائل صحة ما ذكره في الجملة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني