الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهة نصرانية والرد عليها

السؤال

لدي سؤال لأحد النصارى: نعم أخي مات المسيح، لأنه سمح ذلك؟ لكي يظهر شر الإنسان وثم غفران الله ورحمته للإنسان، لا تنسى أن يسوع هو إنسان أيضا في نفس الوقت، نعم ولد بولادة عذراوية لكنها تبقى ولادة من امرأة مثلي ومثلك، عانى المسيح مثل ما نعاني نحن اليوم، جرب من الخطيئة لكنه لم يخطئ ليترك لنا مثالا نقتدي به، إنه الله المتجسد في الإنسان والذي قرر أن يتواضع ويتنازل عن حقوقه وعظمته بإرادته ليعيش حياتنا ويختبر معاناتنا ويغلب ذنوبنا وعدونا الأكبر الذي هو الموت، لذا سمح بنفسه أن يجلد ويعاني من أجلنا، الكتاب المقدس يقول بأنه أخلى نفسه، والآن المسؤولية أكبر علينا لأننا عرفنا الحق، نحن هنا لنعرض أمامك الحقيقة، حقيقة تقرر عن مصير حياتك في هذه الدنيا وفي الآخرة، يسوع خاتم الأنبياء قال: أنا هو الألف والياء، أي البداية والنهاية، قال أيضا: أنا هو الطريق والحق والحياة، المسيح في عرف المسيحية هو كلمة الله الأزلي، فهو أزلي مع الله وواحد مع الله لا يتجزأ منه، وبناء عليه يدعى كلمة الله منذ الأزل، ويدعى ابن الله منذ الأزل أيضا، يعني أن الله لم يتخذه ولدا في وقت معين، بل طبيعته وكينونته هي كذلك منذ الأزل إلى الأبد لا تتغير، وبالتالي عندما يتهم القرآن المسيحيين بأنهم يقولون بأن الله اتخذ ولدا، فإنما هو يقول شيئا لم يؤمن به المسيحيون على الإطلاق، بل هو اتهام باطل من أصلهما معنى ابن الله إذن؟ ابن الله في اللاهوت المسيحي لا تعني أبدا الولادة الجسدية من الله، بل تعني الانتماء، بمعنى أن المسيح آت من عند الله، أو بعبارة الإنجيل أن المسيح كان عند الله قبل أن يظهر في الجسد، فهو كلمة الله، وهذه الكلمة صادرة من الله نفسه، مثلما أن كلمة الإنسان هي بنت شفتيه وبنت أفكاره هكذا كلمة الله هو ابن الله، لأنه صادر منه، فهو لم يصر ابن الله حين ولد من مريم، بل حتى قبل ولادته من مريم وقبل وجود مريم نفسها كان يدعى ابن الله، فالبنوة سابقة لتجسده لا العكس، وفي لغتنا العربية نستخدم لفظ ابن للدلالة على الانتماء في أحيان كثيرة، فمثلا نقول فلان ابن مصر أو ابن العراق أو ابن المغرب للدلالة على أنه ينتمي لهذا البلد وأنه منه، ولا يستطيع شخص أن يتخيل أن لفظة ابن العراق تعني أن العراق تزوج بصاحبة وأنجب منها شخصا، فلماذا لا يتعامل المسلم بنفس المنطق مع لفظ ابن الله؟ لماذا يصر على أن يفهم لفظ ابن الله بمعنى حرفي وجسدي في حين أنه بعيد كل البعد عن ذلك؟ خلاصة القول: لفظ ابن الله مواز للفظ كلمة الله، والمسيحيون يؤمنون بالله وكلمته أو ابنه وروحه روح القدس، ولذلك يقول الإنجيل: في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ، يوحنا1: 1
والآن الفرصة والاختيار أمامك، في انتظار ردك على أمل أن نستطيع مساعدتك.
الكتاب العظيم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبداية نود أن نلفت النظر إلى أن تصور هذا الكلام المذكور، كاف لإبطاله لمن عنده علم بمعنى الربوبية والألوهية، وما ينبغي أن يتصف به الإله الحق من صفات الكمال والجلال والعظمة، والتي في طليعتها: الحياة التامة الكاملة التي لا يسبقها عدم، ولا يعتريها نقص، مع القيومية والصمدية التي لا يمكن أن تكون إلا مع الوحدانية المطلقة، بما تقتضيه من القوة والجبروت، والعزة والملكوت، والكبرياء والعظمة، والعلم والقدرة، وغير ذلك من صفات الكمال! فأين هذا من اعتقاد التجسد في هيئة إنسان، يعاني ما يعانيه البشر، ويتنازل عن حقوقه وعظمته، ويسمح أن يجلده بعض خلقه، بل يصلبوه ويقتلوه!!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ثم نتساءل عن أزلية الأب والابن جميعا، كيف يمكن تصورها، فإذا كان كلاهما أزلياً، فلم كان أحدهما أباً والآخر ابناً مع أن أحدهما لم يسبق الآخر؟ وإذا كان الأب سابقا على الابن، فكيف يكون الابن أزليا؟ وليس هناك من مهرب من هذا السؤال، حتى ولو قلنا: إن التعبير بالبنوة للدلالة على مجرد الانتماء كما يقال: فلان ابن مصر! فإن هذا التعبير قاض بالتفاوت بين فلان هذا وبين مصر، وأنهما لم يوجدا معا وأنه لا يتفرد بهذه النسبة، بل يشركه فيها جميع أبناء مصر، والأهم من ذلك: كيف يكون الأب والابن واحدا لا يتجزأ، كما ورد في السؤال: أزلي مع الله، وواحد مع الله، لا يتجزأ منه ـ فقضية التعدد أو التثليث في عقيدة النصارى لا يقبلها عقل، ولا تؤثر عن وحي، فهما واحد أو اثنان؟! وإذا كانا واحداً، فكيف ينتمي أحدهما للآخر؟!! إذن هما اثنان، منتمٍ وهو الابن، ومنتمى إليه، وهو الأب، والأب أسبق، وهذا يبطل قولهم جملة وتفصيلاً، ويبين أن عقيدتهم لا تعقل.

وأما وصف المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ بأنه كلمة الله تعالى، فهذا حق، ولكن ذلك لا يعني البنوة لا من قريب ولا بعيد وإنما يعني مزيد الشرف والتكريم عن بقية أبناء جنسه بما خصه الله تعالى بالمعجزة في خلقه من غير أب، بل بالأمر المباشر: كن فكان ـ ثم بالكلام في المهد وبالرسالة والنبوة والتأييد بالروح القدس الذي هو جبريل عليه السلام، قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ {النساء: 171}.

قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة: المعنى من قول الله جل ثناؤه: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ـ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين، قال له: كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو الكُن، ولَكِنْ بالكُن كَانَ، فالكُنُّ من الله قول، وليس الكن مخلوقًا، وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته، لأن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمته من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة، وأما قول الله: وَرُوحٌ مِنْهُ ـ يقول: من أمره كان الروح فيه كقوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ {الجاثية: 13} يقول: من أمره، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله، خلقها الله، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله. اهـ.

وقال القاضي عياض في إكمال المعلم: سمى عيسى كلمته، لأنه كان بكلمة الله، قيل: هي قوله: كن ـ فكان، وقيل: هي الرسالة التي جاء بها الملك لأمه مبشرا به عن أمر الله، كما ذكر في كتابه، وقال ابن عباس: الكلمة اسم لعيسى معنى ألقاها إلى مريم: أى أعلمها به، يقال: ألقيت إليك كلمة أي أعلمتك بها، وسمى عيسى روح الله وروح منه، فقيل: لأنه حدث من نفخة جبريل في درع مريم، فنسبه الله إليه لأنه كان عن أمره، وسمى النفخ روحا لأنه ريح يخرج من الروح قاله مكي، وفى هذه العبارة مسامحة، وقيل: روح منه حياة منه، والروح الرحمة، كما قال فيه: ولنجعله آية للناس ورحمة منا ـ وقيل: روح منه برهان لمن اتبعه، وقيل: لأنه لم يكن من أب، كما قال في آدم: ونفخت فيه من روحي ـ وإنما كان جعل الروح فيه بلا واسطة. اهـ.

وقال الدكتور سعود الخلف في كتابه: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية ـ عند حديثه عن الأقنوم الثاني عند النصارى الابن: المراد بالابن عندهم كلمة الله المتجسدة وهو المسيح عليه السلام، ويزعمون أن الابن مساو للأب في الوجود، وأن الأب خلق العالم بواسطة الابن، وأنه الذي نزل إلى الأرض بالصورة البشرية فداء للبشر، وهو الذي يتولى محاسبة الناس يوم القيامة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، واستدل النصارى على أن المسيح ابن لله بما ورد في الأناجيل من النصوص التي تنسب المسيح ابنا لله، ومن تلك النصوص ما ورد في إنجيل متى ـ 16ـ16ـ من قول بطرس لما سأله المسيح عن نفسه ماذا يقول الناس عنه، قال: أنت هو ابن الله الحي... فبمثل هذه الإطلاقات اعتقد النصارى أن المسيح ابن الله، بمعنى أنه خرج من الله عز وجل، وهو قول باطل وافتراء على الله عز وجل تعالى الله عن قولهم
وللرد على النصارى يمكن القول بأن ما أوردوه من أدلة لا تصلح أن تكون مستنداً لإثبات عقيدة خطيرة كهذه، لما يلي:

أولاً: أن كتبهم التي يستندون إليها في هذا هي كتب غير موثقة، وغير سليمة من التحريف، وقد سبق بيان هذا.

ثانياً: أن البنوة التي يزعمها النصارى تختلف عن ظاهر لفظ: ابن الله ـ الوارد في الأناجيل، فالابن في الأصل جزء من الأب ومتخلق من نطفته، ويكون الأب سابقا للابن في الوجود، والفضل له في وجوده، وما يعتقد النصارى في المسيح لا يتفق مع البنوة الحقيقية، وإنما يزعمون أن الابن هو الأب، وأنه مساوٍ له في الجوهر والوجود والمجد، وهي أمور لم ترد في الأناجيل، ولا يستطيع النصارى أن يقيموا عليها الدليل العقلي فضلاً عن الشرعي.
ثالثاً: أن هذا الوصف وهو ابن الله أطلق على غير المسيح في مواطن كثيرة من أناجيلهم، منها في إنجيل متى ـ5ـ9ـ طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون ـ وفي 5ـ45ـ إن المسيح خاطب تلاميذه قائلاً: وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات ـ وفي إنجيل يوحنا ـ 1ـ12ـ فقد ورد عن المؤمنين بالمسيح: وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله.
وفي إنجيل لوقا ـ20ـ 36 ـ قال: لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله أبناء القيامة ـ وورد وصف يعقوب وبنيه بذلك ففي سفر الخروج ـ 4ـ22ـ أن الله خاطب موسى قائلا له: فتقول لفرعون هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر، فقلت لك أطلق ابني ليعبدني ـ وكذلك ورد في سفر إشعياء ـ 43ـ6ـ إئت ببني من بعيد وببناتي من أقصى الأرض، والنصارى لا يقولون إن بني إسرائيل والحواريين أبناء الله حقيقة، وإنما يقولون هذه بنوة مجازية تعني العبادة من طرف العباد، والحفظ واللطف والرعاية من قبل الله عز وجل لهم، فكذلك إذاً ما ورد من بنوة المسيح لله لا تعني غير ذلك، إذ أن العبارتين واحد، فيجب أن يستويا في الدلالة والمعنى، ما لم يدل دليل على خلاف ذلك، وليس هناك ما يدل على خلاف ذلك.
رابعاً: أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد دلت الأدلة الكثيرة على بشريته، وأنه رسول الله، كما أوردت الأناجيل وصفه بأنه ابن الإنسان وابن داود وغير ذلك من الأوصاف الدالة على بشريته، ومن ذلك ما ورد في إنجيل متى:8ـ20 ـ فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه.
وفي إنجيل مرقص ـ2ـ28ـ ابن الإنسان هو رب البيت أيضاً، وفي إنجيل لوقا ـ 7ـ34ـ من كلام المسيح لليهود: جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول شريب خمر محب للعشارين والخطاة، وفي إنجيل يوحنا ـ1ـ51ـ الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان، وفيه أيضا ـ8ـ40ـ يقول لهم المسيح: وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، فورد وصفه بأنه ابن الإنسان في ثمانية وستين موضعا تقريباً في الأناجيل الأربعة، أما ما ورد وفيه إطلاق ابن الله عليه فقد ورد في ثلاثة وعشرين موضعا تقريباً في الأناجيل الأربعة منها أربعة مواضع فقط التي ورد فيها هذا الوصف من كلام المسيح، أما الباقي فليس من كلام المسيح، بل بعضه من كلام إبليس والشياطين، فكيف يترك المعنى الظاهر الواضح الذي تؤيده النصوص الكثيرة والواقع، والذي يتفق مع العقل والمنطق إلى المعنى الخفي البعيد الذي تعارضه النصوص ولا يتفق مع العقل ولا المنطق!!. اهـ.

ثم في الكلام المذكور تخليط واضح، فكيف يقال إن عيسى نبي وأنه آخر الأنبياء، مع أنه أزلي وابن الله.. إلخ، والحق أنه نبي، لكنه ليس آخر الأنبياء، بل آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أوتي من المعجزات الدالة على نبوته ما هو أعظم مما أعطي المسيح عليه السلام.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني