الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما أسباب طمس البصيرة؟ وهل فعل الخيرات وترك المنكرات يعصم من الفتن؟

السؤال

ما أسباب طمس البصيرة؟ مع العلم أننا نجد من نتمنى أن نكون مثلهم في حرصهم على الطاعات، والعبادات، ومع ذلك لا يستطيعون أن يفرقوا بين الحق والباطل عند حدوث الفتن، وهذا ما يحيرني، ويخيفني، أليس التقرب إلى الله بالطاعات، واجتناب المعاصي عاصمًا من الفتن؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فَالْبَصِيرَةُ كما قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ مَعْنَاهَا نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يَرَى بِهِ حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، فَيَتَحَقَّقُ مَعَ ذَلِكَ انْتِفَاعُهُ بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَتَضَرُّرُهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الْبَصِيرَةُ تَحَقُّقُ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ، وَالتَّضَرُّرُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَصِيرَةُ مَا خَلَّصَكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، إِمَّا بِإِيمَانٍ، وَإِمَّا بِعِيَانٍ. انتهى.

وأعظم أسباب تحصيل البصيرة تقوى الله تعالى في السر والعلانية، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا {الأنفال:29}، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ {الحديد:28}.

وضد التقوى هو ارتكاب الذنوب، والجرأة على الله تعالى، ومبارزته بالمعصية، وعدم الحياء منه جل اسمه، فهذا من أعظم أسباب طمس البصيرة، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ومن لم يقبل هدى الله، ولم يرفع به رأسًا دَخَلَ قَلْبُهُ فِي الْغلَافِ، وَالْأَكِنَّةِ، فَأَظْلَمَ، وَعَمِيَ عَنِ الْبَصِيرَةِ، فَحُجِبَتْ عَنْهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، فَيَرَى الْحَقَّ بَاطِلًا، وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَالرُّشْدَ غَيًّا، وَالْغَيَّ رُشْدًا، قَالَ تَعَالَى {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] "وَالرَّيْنُ" "وَالرَّانُّ" هُوَ الْحِجَابُ الْكَثِيفُ الْمَانِعُ لِلْقَلْبِ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ. انتهى.

ومن أعظم أسباب تحصيل البصيرة العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأمره ونهيه، فيكون الجهل بذلك من أعظم أسباب طمس البصيرة، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَصِيرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ، وَفَهْمِهَا، وَالْعِلْمِ بِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِهَا، وَتَجِدُ أَضْعَفَ النَّاسِ بَصِيرَةً أَهْلَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ؛ لِجَهْلِهِمْ بِالنُّصُوصِ، وَمَعَانِيهَا، وَتَمَكُّنِ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ رَأَيْتَهُمْ أَتَمَّ بَصِيرَةً مِنْهُمْ، وَأَقْوَى إِيمَانًا، وَأَعْظَمَ تَسْلِيمًا لِلْوَحْيِ، وَانْقِيَادًا لِلْحَقِّ.

ومن أسباب استجلاب البصيرة الغيرة على محارم الله أن تنتهك، وعلى دينه وشرعه أن تتعدى حدوده، فإذا نقصت تلك الغيرة ضعفت البصيرة، وبقدر تفاوت الناس في هذه الغيرة يكون تمام البصيرة، وضعفها، أو انطماسها، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْغَيْرَةُ عِنْدَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَمَامِ الْبَصِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ، وَمُسْتَحَقِّهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَإِجْلَالِهِ تَكُونُ الْغَيْرَةُ عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ، وَالْغَضَبُ عَلَى مَنْ أَضَاعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِجْلَالِهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَصِيرَةِ، فَكَمَا أَنَّ الشَّكَّ الْقَادِحَ فِي كَمَالِ الِامْتِثَالِ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ الْغَضَبِ، وَالْغَيْرَةِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ إِذَا ضُيِّعَتْ، وَمَحَارِمِهِ إِذَا انْتُهِكَتْ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ.

ومن أسباب انطماس البصيرة الغفلة عن ذكر الله، فإنها مؤدية إلى انفراط الأمر، كما قال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {الكهف:28.

وليست العبادة بمجردها موجبة للبصيرة حتى تستوفي شروطها من الإخلاص، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من العباد من هو ضعيف البصيرة لقلة علمه، أو تهاونه ببعض الذنوب، أو غير ذلك من الأسباب، وفوق ذلك كله توفيق الله للعبد، وإلهامه إياه رشده، وهدايته، وقذف نور الحق في قلبه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والمنة لله تعالى أولًا وآخرًا كما قيل:

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأولُ ما يجني عليه اجتهاده

ومن ثم كان سؤال الله البصيرة، ودعاؤه بالتثبيت، واللهج بذلك من أعظم أسباب تحصيل البصيرة، والإجارة من شرور الفتن، وكان العجب بالنفس، والاطمئنان إليها، وعدم التوكل على الله، أو نقصه من أعظم أسباب ضعف البصيرة، أو انطماسها بحسب ما يتصف به العبد من ذلك.

ومن ثم؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله الثبات في الأمر، ويدعوه بتثبيت قلبه على دينه، ويسأله الهدى، والتقى، ونحو ذلك من دعواته المباركة صلى الله عليه وسلم التي علم بها الأمة اللجوء إلى الله، والاعتصام به في الهداية للحق، وإلقاء نور البصيرة في القلب، فإنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له - نسأله سبحانه أن ينور بصائرنا، وأن يلهمنا رشدنا، ويعيذنا من شر أنفسنا-.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني