الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لماذا يُعدل عن جسد المسلم إلى الكافر في أغراض البحث الطبية؟

السؤال

لماذا بالأدلة المتوفرة يُعدل عن جسد المسلم إلى الكافر في أغراض البحث الطبية، مع مناقشة أنه إنسان، وقد ذُكر في الآية: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [سورة اﻹسراء 70]، وفي إحدى روايات الحديث: "كسر عظم الميت ميتًا ككسره حيًّا"؟ وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن تكريم بني آدم وإن كان عامًّا فيهم، إلا إن مراتبه تتفاوت بينهم بعدة اعتبارات، وفي مقدمتها: الإيمان والكفر؛ فالمؤمن أولى بهذا التكريم في مقابل الكافر، كما لا يخفى.

بل إن هذا التكريم يتفاوت بين أنواع المؤمنين، وكذلك بين أنواع الكفار، فمعصوم الدم منهم أولى به من مهدره، وليس ذلك في مسألة التشريح فحسب، بل هو كذلك في عدة مسائل؛ كمسألة نقل الأعضاء، وراجع فيها الفتوى رقم: 179427.

وعلة التفريق في المسألتين واحدة، ولذلك رجح الشيخ الدكتور محمد المختار الشنقيطي في رسالته العلمية: (أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها) القولَ بجواز نقل الأعضاء، بشرط ألا يكون الشخص المنقول منه العضو مسلمًا، فقال: الذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بجواز نقل الأعضاء الآدمية من الحي والميت، ولكن بشرط أن يكون الشخص المنقول منه العضو كافرًا. اهـ.

ثم ذكر أسباب الترجيح، ومنها قوله: وأما الكافر فإنه لا يدخل ضمنه؛ لأن تعذيبه في الآخرة مقصود شرعًا، فمن ثم جاز أخذ شيء من جثته لسد حاجة المسلم.

رابعًا: أن الأصل يقتضي حرمة المساس بجسد المسلم بالجرح، والقطع حيًّا، أو ميتًا، فوجب البقاء عليه حتى يوجد الدليل الموجب للعدول، والاستثناء منه.

خامسًا: أن أدلة القائلين بالمنع لم تسلم من ورود القوادح عليها، وإن سلمت فإن جُلّها يتعلق بالمسلم، وأما الكافر فإنه يمكن نقل العضو منه إعمالًا للدليل المخالف، وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة. اهـ.

وللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحث بعنوان: (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح، وخدمات طبية) منشور في مجلة البحوث الإسلامية، بدأت فيه ببيان حرمة المسلم، ووجوب تكريمه حيًّا، أو ميتًا، وقالت: ثبتت عصمة دم المسلم بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة ... كما وردت نصوص كثيرة في تكريمه، ورعاية حرمته بعد موته -وذكرت طرفًا منها، ثم قالت: إلى غير ذلك مما يدل على عصمة دم المسلم، ووجوب تكريمه حيًّا، أو ميتًا حتى صار ذلك معلومًا من الدين بالضرورة، فأغنى عن الاستدلال عليه. ويلتحق بالمسلم في عصمة دمه، وحرمته في الجملة من كان معاهدًا، سواء كان عهده عن صلح، أو أمان، أو اتفاق على جزية، فلا يحل دمه، ولا إيذاؤه ما دام في عهده، ولا تحل إهانته بعد وفاته. اهـ.

وإذا وجد الخيار بين جثة مسلم وكافر، فالمسلم أولاهما بالتكريم، والحفظ بلا ريب.

جاء في قرارات هيئة كبار العلماء بشأن تشريح الميت:

الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: التشريح لغرض التحقيق عن دعوى جنائية.

الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.

الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلمًا، وتعليمًا.

بالنسبة للقسمين الأول، والثاني؛ فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن، والعدل، ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة، والعامة المتحققة بذلك. وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين، سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم، أم لا.

وأما بالنسبة للقسم الثالث، وهو التشريح للغرض التعليمي؛ فنظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح، وتكثيرها، وبدرء المفاسد، وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة؛ فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلا أنه نظرًا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتًا، كعنايتها بكرامته حيًّا؛ وذلك لما روى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيًّا». ونظرًا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثت أموات غير معصومة، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث، وعدم التعرض لجثث أموات معصومين، والحال ما ذكر. اهـ.

وراجع للفائدة الفتوى رقم: 6777.

وهنا تجدر بنا الإشارة إلى قول من قصر التكريم المذكور في الآية على المؤمنين فقط؛ قال القشيري في (لطائف الإشارات): المراد من قوله: «بَنِي آدَمَ» هنا المؤمنون؛ لأنه قال في صفة الكفار: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} والتكريم: التكثير من الإكرام، فإذا حُرِم الكافر الإكرام، فمتى يكون له التكريم؟! اهـ.

وكذلك الإشارة إلى الفرق بين التكريم والتفضيل المذكورين في الآية؛ قال الخازن في (لباب التأويل): اعلم أن الله تعالى قال في أول الآية: {ولقد كرمنا بني آدم} وفي آخرها: {وفضلناهم} ولا بد من الفرق بين التكريم والتفضيل، وإلا لزام التكرار! والأقرب أن يقال: إن الله تعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية ذاتية طبيعية؛ مثل: العقل، والنطق، والخط، وحسن الصورة، ثم إنه سبحانه وتعالى عرفه بواسطة ذلك العقل، والفهم اكتساب العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم، والثاني هو التفضيل. اهـ. وقد سبقه إلى ذلك الرازي، وتبعه جماعة من المفسرين.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني