الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

عندما كنت أحاور أحد الأشخاص بعد قوله لأحد الأشخاص: "ولا بارك الله في زمن قدم عليك النطيحة، والمتردية"، فقلت لهذا الشخص بعدم جواز سب الزمن؛ لأن الزمن يعني الدهر، والدهر منهي عن سبه، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رده علي كالتالي: "الله سبحانه وتعالى ينقل على لسان بعض القرشيين قولهم: وما يهلكنا إلا الدهر، وهو نوع من تأليه الطبيعة؛ ولذا جاء الحديث في مقام الزجر عن نسبة حوادث الأيام للدهر بنحو الاستقلال عن الله، ومن عدم الدقة حمل الحديث على ظاهره؛ لأن الله يقول في القرآن: هل أتى على الإنسان حين من الدهر .. إلخ، فلو كان الدهر هو الله هل يصح؟ وهل يصح أن تأول الآية: هل أتى على الإنسان حين من الله؟ طبعًا لا... فالحديث إذن لا يؤخذ بحرفيته، بل يؤول في سياقه، فهل كلامه صحيح؟ أم إنني على صواب؟ وشكرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد أحسنت حين نهيت هذا الشخص عن سب الزمان، فسب الزمان محرم، وله دركات بعضها أسوأ من بعض، وقد بيناها في الفتوى رقم: 55553، وتوابعها.

وبها تعرف أن السب قد يكون للزمن، ولا ذنب له، بل الساب أحق بالذم، أو يعود إلى خالقه، وهو مدبر الزمن سبحانه وتعالى، وما احتج به هذا الشخص من الآية الكريمة فهو في غير محله، فليس في الآية سب الدهر، وإنما فيها ذكر الدهر بمعنى الزمن، وسياق كلامه في سب الزمن، ومن الخطأ التسوية بينهما، ولم يقل أحد: إن الدهر هو الله حتى يقال: إن الآية لا تحمل على ظاهرها، وإنما المراد بقوله في الحديث: وأنا الدهر ـ أي: خالق الدهر، والمتصرف فيه، بدليل قوله: أقلب الليل والنهار، وانظر الفتوى رقم: 67367.

وأما ما ذكره بخصوص معنى الحديث، وأن بعض القرشيين كانوا يؤلهون الطبيعة، فغير صحيح عند جمهور شراح الحديث، وإنما كانوا يسبون الدهر، ويقولون: يا خيبة الدهر، فبين لهم أن مآل سب الدهر سب خالقه، ومدبره، وهو الله، ولم يكونوا يؤلهون الطبيعة، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَقُولُ: أَصَابَنِي الدَّهْرُ فِي مَالِي بِكَذَا ـ وَنَالَتْنِي قوارع الدَّهْر، وبواثقه، وَمَصَايِبُهُ، وَيَقُولُ الْهَرَمَ: حَنَانِي الدَّهْرُ، فَيَنْسُبُونَ كُلَّ شَيْءٍ تَجْرِي بِهِ أَقْدَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ، مِنْ مَوْتٍ، أَوْ سَقَمٍ، أَوْ ثَكَلٍ، أَوْ هَرَمٍ، إِلَى الدَّهْرِ، وَيَقُولُونَ: لَعَنَ اللَّهُ هَذَا الدَّهْرَ، وَيُسَمُّونَهُ الْمَنُونَ؛ لِأَنَّهُ جَالِبُ الْمَنُونِ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمْ، وَالْمَنُونُ: الْمَنِيَّةُ...

ثم فسر المعنى: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ إِذَا أَصَابَتْكُمُ الْمَصَايِبُ، وَلَا تَنْسُبُوهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذَلِكَ، لَا الدَّهْرُ، فَإِذَا سَبَبْتُمُ الْفَاعِلَ، وَقَعَ السَّبُّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ، إِذَا أَصَابَتْهُ نَائِبَةٌ، أَوْ جَائِحَةٌ فِي مَالٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ بَدَنٍ، فَسَبَّ فَاعِلَ ذَلِكَ بِهِ ـ وَهُوَ يَنْوِي الدَّهْرَ ـ أَنَّ الْمَسْبُوبَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَأُمَثِّلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مِثَالًا أُقَرِّبُ بِهِ عَلَيْكَ مَا تَأَوَّلْتُ، وَإِنْ كَانَ -بِحَمْد اللَّهِ تَعَالَى- قَرِيبًا، كَأَنَّ رَجُلًا يُسَمَّى زَيْدًا أَمَرَ عَبْدًا لَهُ يُسَمَّى فَتْحًا أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَسَبَّ النَّاسُ فَتْحًا، وَلَعَنُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ قَائِلٌ: لَا تَسُبُّوا فَتْحًا، فَإِنَّ زَيْدًا هُوَ فَتْحٌ، يُرِيدُ أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْقَاتِلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقَاتِلَ زَيْدٌ، لَا فَتْحٌ، وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ تَكُونُ فِيهِ الْمَصَايِبُ وَالنَّوَازِلُ، وَهِيَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسُبُّ النَّاسُ الدَّهْرَ، لِكَوْنِ تِلْكَ الْمَصَايِبِ، وَالنَّوَازِلَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ صُنْعٌ، فَيَقُولُ قَائِلٌ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْر. انتهى.

وعلى هذا أكثر الشراح، وذكر بعضهم أن هناك فرقة من العرب كانوا دهرية يؤلهون الطبيعة، جاء في التوضيح لابن الملقن: قال الخطابي: كانت الجاهلية تضيف المصائب والنوائب إلى الدهر الذي هو مر الليل والنهار، وهم في ذَلِكَ فرقتان: فرقة لا تؤمن بالله، ولا تعرف إلا الدهر الليل والنهار، اللذين هما محل للحوادث، وطرق لمساقط الأقدار، تنسب المكاره إليه على أنها من فعله، ولا ترى أن لها مدبرًا غيره، وهذِه الفرقة هم الدهرية الذين حكى الله عنهم في قوله: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ {الجاثية: 24}وفرقة ثانية تعرف الخالق، وتنزهه أن تنسب إليه المكاره، فتضيفها إلى الدهر، والزمان، وعلى هذين الوجهين كانوا يسبون الدهر، ويذمونه، فيقول القائل منهم: يا خيبة الدهر، ويا بؤس الدهر، فقال عليه السلام لهم مبطلًا ذَلِكَ: لا يسبن أحدكم الدهر. انتهى.

وعلى كل حال، فكلامه في سب الدهر خطأ، لا يجوز على كلا التفسيرين، وكلام الخطابي لم ينف كلام أكثر الشراح، ولكن أفاد أن هناك فرقة أخرى دهرية تناولها الحديث، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 100933.

فالحاصل أن نسبة الحوادث إلى الدهر لا تجوز، وكذلك سبه لا يجوز.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني