الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نظرات في المصائب والفشل الدراسي ونجاح الغير

السؤال

أنا طالبة، كنت في الصف الثالث الثانوي، الشعبة الأدبية. ولكن شاء الله أن أتحول للشعبة العلمية، رغم صعوبة بعض موادها بالنسبة لي، وكنت لا أفكر في أمر التحول إطلاقا.
وبعد أن حولت، كنت أتمنى أن أحصل على مجموع عال؛ لكي أدخل السرور على قلب أمي، وكنت أقول إن هذا صعب، ولكن يجب أن أبذل ما في وسعي.
وفي البداية كنت أذاكر، ولكن مع مرور الوقت بدأت أضيع وقتا كثيرا، كما أنني كنت أجد صعوبة في فهم بعض المواد العلمية. فشعرت بالإحباط واليأس، وقصرت في هذه المواد، فلم أذاكرها كثيرا، ولم أبذل فيها جهدا كافيا، وشعرت بأن تحولي للشعبة العلمية، ليس خيرا لي.
ولكن كنت أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ولكن أدركت ذلك متأخرا، وقلت: كيف يتساوى من ذاكر من بداية العام، بمن ذاكر آخر شهرين؟ ولكن قلت يجب أن أتوكل على الله، وأذاكر بجدية، فالله أكرم الأكرمين، وأرحم بي من نفسي.
وعندما أتى موعد الامتحانات، كان الأمر يزداد سوء، ويتعثر معي، ولا أذاكر شيئا إلا آخر يومين قبل المادة، وبالتالي كان أدائي سيئا، حتى في المواد التي كنت أذاكرها بإتقان، وقلت إنه "لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" فيجب ألا أيأس، وأن أسأل الله من فضله وكرمه، سيوفقني في النتيجة، لكي أفرح أمي وأبي، وكنت أستغفر كثيرا.
وعندما أتى موعد النتيجة، صدمت من المجموع السيئ، حتى المواد التي بذلت فيها جهدا كبيرا، لم أوفق فيها على الإطلاق، وشعرت بأن الله خذلني بعد ما كنت أطمع في كرمه، في حين أن أصدقائي كانوا يذاكرون قليلا، ويضيعون وقتا كثيرا، وقد دخلوا الامتحانات فقط بقراءة المنهج، وكانوا يخطئون في الامتحانات (مع العلم أنهم لا يكذبون) والله وفقهم، وحصلوا على نسب عالية جدا لم أكن أتوقعها، ولم يأخذوا بالأسباب لكي ينالوا هذه النسب، وسيلتحقون بكليات الصيدلة، والهندسة.
فأنا حاليا أشعر بالإحباط جدا، ولا أرى خيرا في مستقبلي، ولا أرى أنه بعد العسر يسر؛ لأنني كنت سببا في هذا العسر، وكلما أقول الحمد لله، أو لعله خير، أشعر بعدها أنني لا أستحق إلا هذا المجموع، وأنني لن أوفق في أي شيء، ولا أدري أهذا قضاء وابتلاء، ويجب أن أقول قدر الله وما شاء فعل، ولعله خير، أم عقاب على عدم أخذي بالأسباب؟ في حين أن أصدقائي أيضا كانوا مثلي، وأقل.
فقد تحولت من الشعبة الأدبية، للشعبة العلمية لينتهي المطاف بي إلى هذا! والله أحيانا أقول: لو أنني بقيت في الشعبة الأدبية، لكنت حصلت على مجموع أعلى بكثير؛ لأن مواده تناسب قدراتي.
والله إني دعوت ربي ليغفر لي، ويتجاوز عن تقصيري، وكنت أستغفره وأنا أعرف جيدا ثمار الاستغفار، وأعرف أن الله لا يخذل أحدا، وكنت أتمنى أن يعاملني بكرمه، ولكن لا أعرف ماذا حدث؟
كما أنني أصبحت لا أستغفر، ولا أدعو منذ فترة طويلة، وأشعر بالذنب جدا.
أريد حلا لمشكلتي.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فما من شيء في هذا الكون إلا وهو كائن بقضاء الله وقدره، ولذا نقول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49}، ولمزيد من الأدلة بهذا الخصوص، راجعي الفتوى رقم: 53987. هذا أولا.

ثانيا: المعاصي يمكن أن تكون سببا في المصائب التي تصيب الإنسان، ولكن لا يلزم في كل مصيبة أن تكون بسبب ذنب، فقد يكون الأمر مجرد ابتلاء يبتلي به عبده؛ ليعلم الصابرين من غيرهم، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {محمد:31}، وإذا صبر المسلم نال كثيرا من خير الدنيا والآخرة، وانظري في فضل الصبر، الفتوى رقم: 18103. ويمكن أن يكون عدم النجاح بسبب عدم الأخذ بالأسباب الكافية.

ثالثا: أن النجاح الذي حققه زملاؤك في الامتحان، لا يمكنك الجزم فيه بأنهم فعلوا من الأسباب مثل ما فعلت، وقد يكون فيهم من الذكاء، وقوة الحفظ والاستيعاب ما ليس عندك، وقد يعطيهم الله من النجاح والتفوق، ابتلاء واختبارا، فنصيحتنا أن لا تشغلي نفسك بالتفكير في حالهم، بل الأولى أن تصرفي نفسك إلى التفكير فيما ينفعك.

رابعا: أن رب العزة والجلال يحكم بما يشاء، ويفعل ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. فهو إن وفق فلحكمة، وإن خذل فلحكمة. فلا يجوز التعقيب على حكمه، ولا التدخل في شأنه، قال تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {الرعد:41}، وقال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {القصص:68}. وإحسان المسلم ظنه بربه واجب، وإساءته الظن به سبحانه محرم، وهي من صفات أهل النفاق والشرك التي يربأ المؤمن والمؤمنة أن يتصف بها، قال سبحانه عن المنافقين: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {الفتح:6}.

خامسا: أن الفشل في الدراسة، لا يعني بالضرورة الفشل في الحياة بكاملها، فمن يفشل فيها في مجال، يمكن أن يكون ناجحا فيها في مجال آخر. فليس الشأن في ذلك، بالشأن الخطير الذي يجعلك في هذا الحال من الإحباط. والأسوأ والأخطر أن يؤدي بك إلى هذا الحد، نعني قولك: ( شعرت بأن الله خذلني بعد ما كنت أطمع في كرمه...) وقولك: ( أصبحت لا أستغفر، ولا أدعو من فترة طويلة، وأشعر بالذنب جدا ..). فهل الأمر يستحق كل هذا؟!

سادسا: ما يزال المجال للنجاح أمامك مفتوحا، فابذلي من الأسباب القدر الكافي، فقد اعترفت بتقصيرك في الفترة الماضية، وأنك لم تبذلي الجهد المطلوب، وأنك تهملين، ولا تذاكرين إلا قرب الامتحانات، وهذا قد لا يتحقق به المطلوب مهما بذلت من جهد عند قرب الامتحان. ثم إنك لا غنى لك عن ربك مهما اجتهدت، فأحسني الظن به، واحرصي على التوكل عليه، وطلب العون منه، فبذلك يتحقق النجاح بإذن الله، روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان.

وقد أحسن الشاعر حين قال:

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهادهُ

وننبهك في الختام إلى النظر في أمر التخصص، واختيار المناسب منه، فقد لا تكون مواد الشعبة العلمية تتناسب مع رغباتك، أو قدراتك، فينبغي حينئذ الاختيار المناسب، وما يمكن أن يكون سبيلا للتقدم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني