الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم قول: "يا جرح ما له مداو"

السؤال

ما حكم قول: "يا جرح ما له مداو"؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذا القول إن أريد به العموم المطلق، فهو باطل، فما من جرح للبدن، ولا للروح إلا والله يشفيه، فإنه على كل شيء قدير، وإن أريد به سوى الله عز وجل، أي: لا مداويَ، ولا شافيَ إلا بإذن الله، أو لا مداويَ من المخلوقين مستقلاً بقدرته، فلا حرمة فيه؛ إذ لا شافي إلا الله، ولا ينفرد أحد من المخلوقين بالقدرة على المداواة، والشفاء، بل لا يكون ذلك إلا من الله، كما جاء في الصحيحين، واللفظ للبخاري: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ البَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ.

وكما قال الله تعالى للمسيح ابن مريم: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي {المائدة:110}، وقال المسيح لبني إسرائيل: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ {آل عمران:49}.

وكما جاء في حديث أصحاب الأخدود في صحيح مسلم: وكان الغلام يبرئ الأكمه، والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع، إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله.

فما من مداوٍ يداوي، ولا يُبرئ إلا بإذن الله، لكن هذا يعمُّ كل جرحٍ، بل كل شيء، ولا يُخصُّ به الشفاء دون غيره، ولا مرضٌ دون مرض، ولا جرحٌ دون جرح، ولا العميق دون البسيط؛ ولذلك كان ترك هذا القيل، والاحتراز عنه ـ لمن لم يقصد المعنى الباطل ـ أولى؛ لأن فيه محذورين:

أحدهما: أنه قد يوهم ما هو كفرٌ، وإن لم يقصده القائل.

والثاني: أنه يوهم تخصيص هذا الجرح عن غيره في كونه لا يشفيه إلا الله.

أما إن أريد بالمداوي الدواءُ، وأن الله لم يخلق له دواءً، فهو أيضًا ممنوع شرعًا، فإن الله عز وجل ما أنزل من داءٍ إلا وأنزل معه دواءً، كما في صحيح البخاري: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً. أي: دواءً.

وفي مسند أحمد، وصحيح ابن حبان: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ دَوَاءً، جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، وَعَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ.

وجاء عند أبي داود، والترمذي -وصححه- من حديث أسامة بن شريك: قالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهَرَم. وعند ابن حبان: لا السامَ، والهَرَمَ. والسام: الموت، فلا مناص منه، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {العنكبوت:57}.

وكذا لو كان هذا الجرح روحيًا معنوًيا، كغدر صديق، أو فقد عزيز، أو خوف عدو، أو فقر وحاجة، فإن دواء المصيبة قوة الإيمان بالقضاء والقدر، والصبر، والاسترجاع، والاحتساب، والإيمان بأنا إلى الله راجعون، وأن الله لا يضيع عباده، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {البقرة:156،155}، وقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {آل عمران:173}، وقال الشافي جل شأنه: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ {التوبة:59}.

وقد جعل الله تعالى القرآن شفاءً لما في الصدور، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {يونس:57}، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {الإسراء:82}، وقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى {فصلت:44}.

فليتركْ المؤمن هذه المقالة، مهما قصد بها؛ وذلك ابتغاء وجه الله تعالى، وليعدل عنها إلى ما شرعه الله تعالى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني