الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم هجرة المريض إلى بلد يشتد فيها مرضه ولا يوجد له علاج فيها

السؤال

هل الهجرة مستحبة للمريض؟ وما ذا إذا أصبح مرضه أشد بسبب الهجرة، ولم يكن العلاج موجودا في البلد الذي هاجر إليه لحفظ الدين؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالهجرة إنما تجب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، إذا لم يستطع المسلم أن يظهر فيها شعائر دينه، أو خشي فيها على نفسه الفتنة. وهذا الوجوب له موانع، منها: المرض الذي يعجز المرء عن الهجرة بسببه.

قال ابن قدامة في المغني: الهجرة: هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام ...

والناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:

أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه، مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة .. الثاني: من لا هجرة عليه. وهو من يعجز عنها، إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء، والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه ... ولا توصف باستحباب؛ لأنها غير مقدور عليها.

والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه. وهو: من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، وإقامته في دار الكفر، فتستحب له؛ ليتمكن من جهادهم، وتكثير المسلمين، ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم. ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة. اهـ.

ومن المعلوم أن المرض يتفاوت، وليس كل أنواعه يوصف صاحبها بالعجز، فلا يرفع عن المكلف من التكاليف الشرعية بسبب مرضه، إلا ما يعجز عن فعله، أو يشق عليه مع هذا المرض؛ لأن القدرة هي مناط التكليف.

جاء في الموسوعة الفقهية: المرض من أسباب العجز، فشرعت العبادات معه بقدر المكنة؛ لئلا يلزم تكليف ما ليس في الوسع. اهـ.
وجاء فيها أيضا: الأصل أن المرض لا ينافي أهلية الحكم -أي ثبوت الحكم، ووجوبه على الإطلاق- سواء كان من حقوق الله، أو العباد، ولا أهلية العبارة -أي: التصرفات المتعلقة بالحكم- إذ لا خلل في الذمة، والعقل اللذين هما مناط الأحكام، ولهذا صح نكاح المريض، وطلاقه، وإسلامه، وانعقدت تصرفاته كالبيع والشراء، وغير ذلك. إلا أنه لما كان فيه نوع من العجز، شرعت العبادات فيه على حسب القدرة الممكنة، وأخر ما لا قدرة عليه، أو ما فيه حرج. اهـ.
وأما السؤال عن حكم الهجرة في حال ما لو اشتد المرض بسببها، ولم يكن له علاج في البلد الذي هاجر إليه، فلم نجد في جوابه نصا لأهل العلم. ولكن بتأمل ما سبق، يتبين أن المرض إنما يكون عذرا في الهجرة الواجبة إذا أعجز صاحبه عنها، وصورة هذا السؤال في من هو قادر على الهجرة، ولكنه يخشى زيادة المرض بسببها! وهذا يعني أن عذره ليس بقائم؛ لأنه قادر على الهجرة. وأما المرض الحاصل بعد الهجرة، فحكمه حكم غيره من الأمراض. وقد حصل شيء من ذلك، مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة، فعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله عز وجل، فاشتكى أبو بكر ... الحديث. رواه أحمد والبخاري ومسلم. وفي رواية ابن إسحاق عن هشام به، قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ... الحديث. قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية. اهـ.

قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: لما ابتلى الله تعالى نبيه بالهجرة، وفراق الوطن، ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التي ... فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بأصحابه من الحمى والوباء، خشى كراهية البلد، لما في النفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا الله في رفع الوباء عنهم، وأن يحبب إليهم المدينة، كحبهم مكة، وأشد. اهـ.

على أنه يمكن للسائل أن ينتقل حينئذ إلى بلد آخر، يتمكن فيه من إظهار دينه، ويجد فيه العلاج لمرضه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني