الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يستوي شهداء الآخرة مع شهيد المعركة في المغفرة والشفاعة

السؤال

قرأت في أحد المواقع أن شهداء الآخرة ليسوا من الشهداء، وإنما يعطون أجر الشهيد فقط، ولا يغفر لهم، وليس لهم منزلة الشهيد، فهل هذا صحيح؟ وهل هؤلاء يشفعون؟
أرجو الرد على هذا السؤال، وهناك أسئلة أيضًا قد أرسلتها، ولم ألق الرد، وشكرًا، وآسف.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن شهداء الآخرة يعتبرون من الشهداء، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله، من قُتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذًا لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد. قال ابن مقسم: أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: والغريق شهيد.
ولكن الشهداء ليسوا في منزلة واحدة؛ فأعلاهم قدرًا وأعظمهم أجرًا الشهيد في المعركة مع الكفار، وأما غيره من شهداء الآخرة فلا يستوي معه في الفضل؛ فقد جاء في حاشية البجيرمي: ومعنى كونه شهيد الآخرة: أن له رتبة فيها زائدة على غيره، لكن الظاهر أنها لا تبلغ رتبة شهيد المعركة. اهـ.

وقال الشيخ/ ابن عثيمين: ولا يمكن أن يساوَى المقتول ظلمًا بشهيد المعركة، وإن كان يطلق عليه اسم شهيد، فالمطعون شهيد، والمبطون شهيد، والغريق شهيد، والحريق شهيد، وليس كل ما أطلق عليه اسم الشهيد يكون حكمه كشهيد المعركة؛ لأن شهيد المعركة مدّ رقبته إلى عدوه ليقطعها في سبيل الله، والمقتول ظلمًا أكره على المقاتلة حتى قتل، فبينهما فرق عظيم. ولهذا يجب ألا نظن أن الشهداء بمرتبة واحدة، وإن كانوا شهداء، فكل بمرتبته؛ قال تعالى: {ولكل درجات مما عملوا} [الأحقاف: 19]. انتهى من الشرح الممتع.

وأما عن الشفاعة: فقد وردت في عموم شفاعة الشهداء أحاديث صحيحة، من هذه الأحاديث: ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في المسند: يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء أن يشفعوا، فيشفعون ... إلى آخر الحديث. والحديث حسنه الأرناؤوط.

وفي حديث الشفاعة الطويل كما في مسند أحمد، والسنة لابن أبي عاصم: ثم يقال: ادعوا الشهداء، فيشفعون لمن أرادوا. اهـ. والحديث حسنه الألباني والأرناؤوط.

وهذه الأحاديث تتناول بلا شك شهيد معركة الكفار، وهل تتناول غيرهم من الشهداء أم لا؟ لم نطلع بعد البحث على قول صريح لأحد من أهل العلم يفيد ذلك، إلا ما ألمح إليه ابن قدامة حيث قال في "المغني": وإن قُتل العادل (أي: من يقاتل أهل البغي) كان شهيدًا، لأنه قُتل في قتال أمر الله به بقوله: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات: 9].

وهل يغسّل ويصلى عليه؟ فيه روايتان؛ إحداهما: لا يغسّل ولا يصلى عليه، لأنه شهيد معركة أُمر بالقتال فيها، فأشبه شهيد معركة الكفار. والثانية: يغسّل ويصلى عليه، وهو قول الأوزاعي، وابن المنذر، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالصلاة على من قال: لا إله إلا الله، واستثنى قتيل الكفار في المعركة، ففيما عداه يبقى على الأصل، ولأن شهيد معركة الكفار أجره أعظم، وفضله أكثر، وقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهل بيته، وهذا لا يلحق به في فضله، فلا يثبت فيه مثل حكمه، فإن الشيء إنما يقاس على مثله. انتهى.

وقد سئل العلامة الشيخ/ ابن باز -رحمه الله تعالى- عنه فتوقف فيه، فقد قيل له في سؤال: هل يحاسب الشهيد الذي لم يستشهد في ساعة المعركة، والشهداء أقسام كما نعلم؟ وهل يشفع في سبعين فردًا؟ وهل يحاسب على كل شيء؟ وهل يعفى عنه في كل شيء إلا على الدَّين؟
فأجاب -رحمه الله تعالى-: جاء في الحديث الصحيح أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدَّين، فالشهيد الذي قُتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، يغفر له كل شيء، كما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-، إلا الدَّين، فإن جبرائيل أخبر النبي بذلك، وأن صاحب الدَّين لا يضيع حقه، بل يجزيه الله عن حقه، ويعطيه حقه يوم القيامة، ولا يضيع عليه شيء، والشهيد يغفر له كل شيء، لكن الدَّين الذي عليه الله يقضيه عنه -سبحانه وتعالى-، لا يضيع على صاحبه.

الشهيد الذي لم يستشهد في المعركة؛ ما دام مات بسبب الجراحات فهو شهيد، ما دام بسبب الجراحات التي يعتبر فيها في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، سواء مات في المعركة أو تأخر موته أيامًا وليالي، لكنه مات بسبب الجراحات التي أصابته.

لعلها تقصد من سؤالها أقسام الشهداء الآخرين؛ الشهداء أقسام، لكن أفضلهم شهيد المعركة في سبيل الله -عز وجل-، ومنهم المطعون، الذي مات بالطاعون، والمبطون الذي يموت بالإسهال في البطن، وصاحب الهدم الذي يموت بالهدم، تسقط عليه دار، أو سقف، وفي حكمه من يموت في دهس السيارات أو انقلاب السيارات وصدام السيارات هذا من جنس الهدم، وكذلك الغرق، كل هذه أنواع من الشهادة، لكن أفضلهم شهيد المعركة، وهو الذي لا يغسل، ولا يصلى عليه، أما البقية يغسلون، ويصلى عليهم، وإن كانوا شهداء. هل يشفعون؟ هل يعفى عن كل شيءٍ عملوه إلا عن الدَّين؟ أم أن ذلك هذا ما جاء في الحديث الصحيح في شهيد المعركة. في شهيد المعركة فقط؟ أنه إذا كان صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، هذا في شهيد المعركة. أما غيره فالله أعلم، له الفضل، وله خير، ولكن كونهم يشفعون في كذا، أو كونهم يغفر لهم كل شيء هذا محل نظر يحتاج إلى دليل خاص، لكن لهم فضل، فضل الشهادة. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني