الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كتاب أحكام الدلالة على تحرير الرسالة... في الميزان

السؤال

ما رأيكم في كتاب أحكام الدلالة على تحرير الرسالة للشيخ زكريا الأنصاري؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فهذا الكتاب شرح لرسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري، وتقرير لما فيها من العقائد والرقائق، جرى فيه الشارح على طريقة الأصل، ففيه ما في الأصل من النظر!
ومن ذلك أن صاحب الرسالة ـ رحمه الله ـ جرى فيها على مذهب الأشاعرة في الأصول، متبعا لشيخه أبي بكر بن فورك، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن أبا القاسم القشيري سلك سبيل الأشعرية (الاستقامة ص 183).
ومن ذلك قول القشيري: سمعت الإمام أبا بكر بن فورك رحمه الله تعالى يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمت الآن إسلاما جديدا. اهـ.
وحديث الجهة يعني به إثبات جهة العلو لله تعالى، وأنه مستوٍ على عرشه!
قال الشارح القاضي زكريا الأنصاري مازجا كلامه بالأصل: كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة، وأنه تعالى على العرش... اهـ.
ومن ذلك ما ذكره القشيري في تأويل صفة الاستواء، فقال: سئل ذو النون المصري عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] فقال: أثبت ذاته ونفي مكانه، فهو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمة كما شاء سبحانه، وسئل الشبلي عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} فقال: الرحمن لم يزل، والعرش محدث، والعرش بالرحمن استوى، وسئل جعفر بن نصير عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} فقال: استوى علمه بكل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء، وقال جعفر الصادق: من زعم أن الله في شيء، أو من شيء، أو على شيء، فقد أشرك؛ إذ لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصورا، ولو كان من شيء لكان محدثا... اهـ.
وقد عقد الشارح لذلك مطلبا في معاني (استوى) قال فيه: وللفظ (استوى) محامل: (جلس) و (اعتدل) و (استولى) و (علا) مكانا أو رتبة و (قصد)، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]: قصد إلى فعل أمر فيها. فالأولان والرابع بمعنى علوِّ المكان محالات في حقه تعالى، بخلاف ما عداها! والعرش لغة سرير الملك والسقف... اهـ.
وهذا خلاف عقيدة أئمة أهل السنة والجماعة في صفة العلو والاستواء، وراجع في بيان ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 6707، 66332، 4117، 107461، وقد ذكر ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) ما صح من كلام ذي النون المصري في العرش، وما يخالفه مما نقله القشيري عنه، ثم قال: القشيري لم يذكر لهذه الحكاية إسنادا، وما ذكرناه مسند عنه، وفي كتب التصوف من الحكايات المكذوبة ما الله به عليم. قال شيخ الإسلام: وهذا النقل باطل؛ فإن هذا الكلام ليس فيه مناسبة للآية، بل هو مناقض لها؛ فإن هذه الآية لم تتضمن إثبات ذاته ونفي مكانه بوجه من الوجوه، فكيف يفسر بذلك؟ قال: وأما قوله: هو موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمه، فحق، ولكن ليس هو معنى الآية. اهـ.
ومما في الرسالة أيضا مما اشتهرت به مذاهب المتصوفة: موقفهم من الأسباب والتعامل معها، قال القشيري: قيل: دخل إبراهيم بن دوحة مع إبراهيم بن ستنبة البادية فقال: إبراهيم بن ستنبة: اطرح ما معك من العلائق. قال: فطرحت كل شيء إلا دينار، فقال: يا إبراهيم لا تشغل سري، اطرح ما معك من العلائق. قال: فطرحت الدينار، ثم قال: يا إبراهيم اطرح ما معك من العلائق. فتذكرت أن معي شسوعا للنعل فطرحتها، فما احتجت في الطريق إلى شسع إلا وجدته بين يدي. فقال إبراهيم بن ستنبة: هكذا من عامل الله تعالى بالصدق. اهـ.
وقد علق الشارح على ذلك فقال: لعله طرح ذلك لمن يأخذه، وإلا فطرحه إضاعة للمال، وهي حرام. اهـ.
ولا يخفى أن هذا التعليق سديدٌ وفي محله، ولكنه لا يتفق مع مقاصد الأصل وسياق الكلام، ولذلك رجع الشارح فنقض ما أصلحه بهذا التعليق، وبين منزع طريقة المتصوفة فقال: أو يقال: إنما يحرم إذا كانت لغير التداوي لا للتداوي، لاسيما الأمراض الدينية، وإذا جاز أن يتلف العبد مالا كثيرا للأمراض البدينة وقد لا تزول، فكيف إذا كانت دينية وحصل بها أدب النفس وزجرها حتى لا تعود. اهـ. (ص 639).
ومما يلاحظ أيضا على متن الرسالة كغيرها مما ألف في هذا المجال: وجود حكايات عن بعض المشايخ تحمل معاني مخالفة لظواهر الأدلة الشرعية، وكذلك أحاديث واهية منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي ورسالة القشيري ومناقب الأبرار ونحو ذلك، من الحكايات الباطلة، بل ومن الأحاديث الباطلة: ما لا يوجد مثله في مصنفات أبي نعيم. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني