الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أوجه وأحكام مسألة غير الله

السؤال

سؤالي: كما أعلم أن من طلب شيئًا من أحد ينقص من كمال الإيمان، كما في كتاب التوحيد للشيخ/ ابن عثيمين، واقتداء بالرسول عندما سقط خطام الناقة ولم يطلب من أحد أن يناوله إياه.
فإذا طلبت من أحد شيئًا، ولكن فيما بعد أعطيه هدية أو أي شيء، في نيتي مقابل أني طلبت منه شيئًا (أي: على سبيل البدل)، فهل يعتبر كما طلبت؟
وجزاكم الله خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فسؤال الناس يختلف حكمه بحسب حال السائل والمسؤول؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهيًّا عنها. اهـ.
وقال العيني في (عمدة القاري): اعلم أن مدار الأحاديث في هذا الباب على كراهية المسألة، وهي على ثلاثة أوجه: حرام، ومكروه، ومباح.

فالحرام لمن سأل وهو غني من زكاة، أو أظهر من الفقر فوق ما هو به.

والمكروه لمن سأل وعنده ما يمنعه عن ذلك، ولم يظهر من الفقر ما هو به.

والمباح لمن سأل بالمعروف قريبًا أو صديقًا.

وأما السؤال عند الضرورة: فواجب لإحياء النفس. وأدخله الداودي في المباح.

وأما الأخذ من غير مسألة ولا إشراف نفس: فلا بأس به. اهـ.

وقال النووي في شرح مسلم: مقصود الباب وأحاديثه: النهي عن السؤال، واتفق العلماء عليه إذا لم تكن ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين:

أصحهما: أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث.

والثاني: حلال مع الكراهة بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول. فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق. اهـ.

ونية المكافأة التي ذكرها السائل لا تغير من حكم الحرمة شيئًا، ولكنها تنفع صاحبها في السؤال المباح، وفي طلب الشيء الهين الذي يتسامح الناس في طلبه، وتجري به عادتهم، ولا يكون معها ذلة السائل وخضوعه للمسؤول.

قال الشيخ العلامة/ عبد الرحمن المعلمي اليماني في رسالته (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله): نظرتُ في وجوه السؤال (يعني سؤال غير الله) فوجدته على أقسامٍ:

القسم الأوَّل: ما هو من باب سؤال الإنسان حقًّا له عند المسؤول؛ كأن يكون لك دَيْنٌ عند إنسانٍ فتطلبه منه.

الثاني: ما جرت العادة بالتسامح به على نيَّة المكافأة؛ كقول التلميذ لزميله: (ناولني الكتاب).

الثالث: سؤال الإنسان ما ليس بحقًّ له ولا جرت العادة بالتسامح به على نيَّة المكافأة؛ وذلك كقول مَن يجد الكَفاف من العيش لغنيًّ لا حقَّ له عليه: (أعطني دينارًا) مثلًا.

ومن هذا القسم سؤال الإنسان من ربِّه تعالى؛ لأنه لا حقَّ له على ربِّه تعالى.

فأمَّا الأوَّل: فلا يُسمَّى استعانةً، ولا يلزمه التذلُّل والخضوع.

وأما الثاني: فإنه وإن سُمِّيَ استعانةً لكنَّه لا يلزمه التذلُّل والخضوع، إلاَّ أن فيه رائحةً مَّا من ذلك.

وأما الثالث: فهو الذي يلزمه التذلُّل والخضوع. اهـ.

وعلى ذلك؛ فالمواضع المباحة لسؤال الناس التي تنفع فيها نية المكافأة صاحبها، لكونها لا يلزم فيها التذلُّل والخضوع، تبقى مفضولة؛ لما فيها من رائحة ذلك. ويبقى أن الأفضل -وإن كان المفضول مباحًا- أن لا يسأل المرء أحدًا شيئًا، ما دام غير مضطر لذلك، وهذا من باب طلب الكمال ومعالي الأخلاق والورع المستحب، كما يدل عليه حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئًا. فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه. رواه مسلم.

قال القرطبي في (المفهم): أخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه في البيعة: ألا يسألوا أحدًا شيئًا؛ حمل منه على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل منن الخلق، وتعليم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزة النفوس. ولما أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء، وفي كل الأحوال، حتى فيما لا تلحق فيه منة؛ طردًا للباب وحسمًا للذرائع. اهـ.

وقال ابن علان في (دليل الفالحين): إنما أسرّ هذه الكلمة دون ما قبلها؛ لأن ما قبلها وصية عامة، وهذه الجملة مختصة ببعضهم ... قال ابن رسلان: فيه التمسك بالعموم؛ لأنهم نهوا عن السؤال، والمراد منه سؤال الناس أموالهم، فحملوه على عمومه، وفيه التنزّه عن جميع ما يسمى سؤالًا وإن كان حقيرًا. اهـ.

وقال أبو الحسن المباركفوري في (مرعاة المفاتيح): هذا مبالغة في النهي عن السؤال، وحسم لمادته، وإن لم يكن من السؤال المحرم. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة): سؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلًا على الله أفضل. اهـ.

وقال ابن رجب في (نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس): قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله" أمر بإفراد الله -عز وجل- بالسؤال، ونهي في سؤال غيره من الخلق ... واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلًا وشرعًا، وذلك من وجوه متعددة:

- منها: أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة ...

- ومنها: أن في سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم؛ لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها، فكيف يقدر على ذلك لغيره؟ وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس هو بقادر ...

- ومنها: أن الله يحب أن يسأل، ويغضب على من لا يسأله، فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء. والمخلوق غالبًا يكره أن يسأل لفقره وعجزه ...

- ومنها: أن الله تعالى يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من داع فأستجيب له؟ وقد قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186]. فأي وقت دعاه العبد وجده سميعًا قريبًا مجيبًا ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات ... اهـ. وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 280837.

وإذا كان الامتناع عن سؤال الناس من باب طلب الكمال والورع المستحب، فينبغي أن يقدر المرء فيه قدر نفسه، ولا يرفعها فوق منزلتها اللائقة بها؛ قال ابن رجب في (جامع العلوم والحكم): هاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو: أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين! وسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «هما ريحانتاي من الدنيا». وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: "إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها، فلا يفعل". وسئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن رجل يشتري بقلًا، ويشترط الخوصة -يعني التي تربط بها جرزة البقل- فقال أحمد: أيش هذه المسائل؟! قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم. فقال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم، فنعم هذا يشبه ذاك. وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه أمر من يشتري له سمنًا، فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع. وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرته يستمد منها، واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم. واستأذنه آخر في ذلك فتبسم، فقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا. وهذا قاله على وجه التواضع، وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة، ويقدم على الشبهات من غير توقف. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني