الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أراء المفسرين في الإفساد الأول الذي أفسده بنو إسرائيل

السؤال

ذكر الله في سورة بني إسرائيل إفسادين لليهود في الأرض، الثاني عرفناه، وهو أنهم قتلوا يحيى بن زكريا ـ عليه السلام ـ لكن الأول اختلف فيه المفسرون اختلافا كبيرا بحسب اختلاف روايات الطبري ـ رحمه الله ـ فماذا ترجِّحون، بعد النظر في هذه الروايات، لأننا نثق برأيكم؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد اختلف المفسرون في حقيقة الإفساد الأول الذي أفسده بنو إسرائيل، وقد لخص ابن جرير آراءهم، فقال ـ بعد أن أطال في سرد الروايات: فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السديّ، وقول ابن زيد، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده، إلى أن بعث الله عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي الله، وعتوّهم على ربهم، وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف من قتلهم شعياء بن أمصيا نبيّ الله، وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يُقتل، وأن المقتول إنما هو شعياء، وأن بختنصر هو الذي سُلِّط على بني إسرائيل في المرّة الأولى بعد قتلهم شعياء، حدثنا بذلك ابن حميد، عن سلمة عنه، وأما إفسادهم في الأرض المرّة الآخرة، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا. اهـ.

ولعل عدم ترجيح ابن جرير بين القولين، لأنه ليس هناك قول ذو حجة ظاهرة يتعين المصير إليها، وعلى كل حال فالأقوال الواردة في حقيقة الإفساد الذي أفسده بنو إسرائيل ومن سُلِّط عليهم، إنما هي آثار مأخوذة عن بني إسرائيل وهي مما لا يتعين تصديقها، لذا رأى بعض المحققين من المفسرين كابن كثير الإضراب عن ذكرها صفحا، فقد قال في تفسيره: يقول تعالى: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي: تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا، أي: يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس، وقوله: فإذا جاء وعد أولاهما ـ أي: أولى الإفسادتين: بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ـ أي: سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد أي: قوة وعدة وسلطة شديدة: فجاسوا خلال الديار ـ أي: تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا: وكان وعدا مفعولا ـ وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم: من هم؟ وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها، لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد، وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم، وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم، فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء. اهـ باختصار.

والمعنى المقصود من الآية الكريمة لا يتوقف على معرفة حقيقة الإفساد الذي أفسده بنو إسرائيل، فهو بحث تاريخي، والجهل به لا ينقص من علم المرء بمعنى الآية شيئا, ومن المفسرين المتأخرين الذي فسروا الآية الكريمة وأعرضوا عن ذكر حقيقة الإفساد: ابن سعدي، وقد نقلنا كلامه في الفتوى رقم: 60919.

وهنا يحسن التنبيه على قاعدة مهمة في باب التفسير: وهي أن ما أبهمه الشرع، وسكت عن تبيين حقيقته، فلا حاجة لتتبعه من الإسرائيليات ونحوها، فهذا مما لا تترتب عليه فائدة كبيرة، قال ابن تيمية: ولكن في بعض الأحيان ينقل ـ أي: السدي ـ عنهم ـ أي: ابن مسعود، وابن عباس ـ ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ـ رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو، ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.

والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني