الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم رجوع المهاجر إلى بلد الكفر التي هاجر منها

السؤال

هل يشترط في الهجرة عدم الرجوع إلى دار الكفر لتكون الهجرة صحيحة؟ وهل سفري إلى بلاد الحرمين لطلب العلم يعد هجرة مع أنني كنت راجعا إلى بلدي؟ وهل يأثم البلد الذي لا يستقبل المهاجرين ويرحلهم إلى دار الكفر؟ علما بأنني مرضت بعد السفر إلى بلاد المسلمين ثم رجعت وأتوقع أن يزيد مرضي حتى و لو لم أهاجر.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبداية ننبه على أن الهجرة من بلاد الكفر لا تجب على من يأمن فيها الفتنة على نفسه، ويقدر على إظهار شعائر دينه، وإنما تستحب فقط على الراجح، وراجع في ذلك الفتويين التالية أرقامهما: 118279، 2007.

فإن وجبت الهجرة من بلد لكون المسلم فيها لا يأمن على نفسه الفتنة، أو لا يقدر على إظهار شعائر دينه، فلا تجوز له العودة إليها مختارا، مادامت باقية على هذا الوصف، لبقاء علة حرمة الإقامة فيها، وأما إن تغير الوصف وزالت العلة بحيث صارت دار إسلام، أو دارا يأمن فيها المسلم على نفسه، ويقدر على إظهار شعائر دينه، فلا يحرم عليه الرجوع إليها، فلا يشترط إذاً لصحة الهجرة من بلدٍ ما عدم الأوبة إليه ـ إن زال السبب الباعث على الهجرة ـ وأما ما جاء من النهي عن الرجوع في الهجرة: فهو خاص بهجرة الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، على خلاف هل كان ذلك في أول الإسلام ثم زال النهي، أم بقي مستمرا في حق الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو الوليد بن رشد في المقدمات الممهدات: الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الكفر: أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا بريء من كل مسلم مقيم مع المشركين ـ إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه، إن عاد دار إيمان وإسلام، كما حرم على المهاجرين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجوع إلى مكة للذي ذخره الله لهم من الفضل في ذلك. اهـ.

وقال القاضي عياض في شرح حديث: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا ـ وهذا الحديث حجة لمن منع المهاجر بعد الفتح من المقام بمكة، وهو قول الجمهور، وأجاز ذلك جماعة لهم بعد الفتح، مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح، ووجوب سكنى المدينة لنصرة النبي عليه السلام ومواساتهم له بأنفسهم، ولفرارهم بدينهم من الفتنة، وأما لغير المهاجرـ ممن آمن بعد ذلك ـ فلا خلاف في جواز سكنى بلده له، مكة أو غيرها. اهـ.

ونقل كلامه النووي والعيني، ولم يتعقباه.

ويفهم من كلام القاضي: وأما لغير المهاجر ـ ممن آمن بعد ذلك ـ فلا خلاف في جواز سكنى بلده له، مكة أو غيرها ـ أن من سوى المهاجرين الأولين لا يدخل في النهي عن السكنى في بلده ـ سواء هاجر منه أم لا ـ وخصوصية الصحابة بالنهي عن الرجوع إلى الوطن بعد الهجرة منه ظاهر جدا على قول من يرى أن النهي قد زال أصلا، قال ابن الجوزي: اعلم أنه كان يكره للمهاجر من مكة أن يعود فيقيم بها، لأنه كالرجوع فيما ترك، ورثى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة لكونه مات بمكة، فجعل للمهاجر أن يقيم بعد النسك ثلاثا ثم يخرج لتتحقق هجرته، وقد كان جماعة من الصحابة يرون أن هذا كان في بداية الإسلام، فلما صارت دار إسلام واستقرت القواعد كان ابن عمر وجابر يجاوران بها، وقد توطنها خلق كثير من الصحابة، وقد ذكرتهم في كتاب مكة. اهـ.

بينما يرى بعض العلماء أن النهي يشتمل من ترك أرضه لوجه الله، دون من تركها فرارا منها لسلامة الدين فحسب، قال القرطبي في المفهم: هذا الخلاف وإن كان فيمن مضى حكمهم وانقرض عصرهم وهجرتهم الخاصة بهم، لكن ينبني عليه خلاف فيمن فر بدينه عن موضع ما يخاف فتنته وترك فيه رباعا، ثم ارتفعت تلك الفتنة، فهل يرجع لتلك الرباع أم لا؟ فنقول: إن كان ترك رباعه لوجه الله تعالى كما فعله المهاجرون، فلا يرجع لشيء من ذلك، وإن كان إنما فر بدينه ليسلم له ولم يخرج عن شيء من أملاكه، فإنه يرجع إلى ذلك كله، إذ لم يزل شيء من ذلك عن ملكه. اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وهو حسن متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعا أو دورا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك. اهـ.

ولذلك صاغ الحافظ المسألة بلفظ: من فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟.

لكن هذا القول لا يخلو من إشكال، قال محمد آدم الأثيوبي في ذخيرة العقبى: عندي فيما قاله القرطبي نظران: أما أوّلاً: ففي تعميمه المنع لكل من فر بدينه، لأن ذلك يحتاج إلى دليل، من نص أو إجماع، وأما ثانيا: ففي تفريقه بين من فر بدينه، ومن ترك بلده لله، فإنه لا فرق بينهما في الحقيقة، كما هو ظاهر. اهـ.

فالأصل هو إباحة رجوع المهاجر إلى البلد التي هاجر منها إن زال السبب الموجب لهجرته، وهذا ما سبق أن أفتينا به في الفتوى رقم: 100150.

ونعتذر عن إجابة بقية الأسئلة اتباعا لسياسة الموقع في جواب السؤال الأول فقط من الأسئلة المتعددة.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني