الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ماهية القلب، والفرق بينه وبين الروح

السؤال

ما هو القلب الذي تحدث عنه الله حين قال: "يحول بين المرء وقلبه"؟ وهل صحيح القول: إن القلب هو لب النفس أو الروح على حد سواء بموجب أنكم أقررتم أن الروح والنفس كلاهما واحد، أي أن قلب كل امرئ مخلوق كما نفسه مخلوقة، ولب كل نفس أو روح هو القلب؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالقلب مخلوق كسائر المخلوقات، وليس هو الروح، بل يعبر عنه العلماء بأنه لطيفة ربانية روحانية لها تعلق بالقلب، وهذا التعلق مما لا يعلم كيفيته إلا الله تعالى، قال المناوي في شرح حديث: إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن: إن القلوب أي قلوب بني آدم جمع قلب وليس المراد بها هنا اللحم الصنوبري الشكل القار في الجانب الأيسر من الصدر فإنه موجود في البهائم؛ بل لطيفة ربانية روحانية لها بذلك القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهي المدرك والمخاطب والمطالب والمعاقب، ولهذه اللطيفة علاقة بالقلب الجسداني، وقد تحيرت عقول الأكثر في كيفية التعلق وأن تعلقها به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلق المتمكن بالمكان، وتحقيق التعلق متعلق بعلوم المكاشفة لا بالعلوم النظرية. انتهى.

وفي سبل السلام للصنعاني ـ رحمه الله ـ ما لفظه: وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْقَلْبِ الْمُضْغَةُ إذْ هِيَ مَوْجُودَةٌ لِلْبَهَائِمِ مُدْرَكَةٌ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، بَلْ الْمُرَادُ بِالْقَلْبِ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ لَهَا بِهَذَا الْقَلْبِ الْجُسْمَانِيِّ تَعَلُّقٌ وَتِلْكَ اللَّطِيفَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ الْمُدْرِكَةُ الْعَارِفَةُ مِنْ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ وَالْمُعَاقَبُ وَالْمُطَالَبُ، وَلِهَذِهِ اللَّطِيفَةِ عَلَاقَةٌ مَعَ الْقَلْبِ الْجُسْمَانِيِّ، وَذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ أَجْنَادٌ مُسَخَّرَةٌ لِلْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ فِي حُكْمِ الْخَدَمِ وَالْأَعْوَانِ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا وَالْمُتَرَدِّدُ لَهَا، وَقَدْ خُلِقَتْ مَجْبُولَةً عَلَى طَاعَةِ الْقَلْبِ لَا تَسْتَطِيعُ لَهُ خِلَافًا وَلَا عَلَيْهِ تَمَرُّدًا، فَإِذَا أَمَرَ الْعَيْنَ بِالِانْفِتَاحِ انْفَتَحَتْ، وَإِذَا أَمَرَ الرِّجْلَ بِالْحَرَكَةِ تَحَرَّكَتْ، وَإِذَا أَمَرَ اللِّسَانَ بِالْكَلَامِ وَجَزَمَ بِهِ تَكَلَّمَ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ، وَتَسْخِيرُ الْأَعْضَاءِ وَالْحَوَاسِّ لِلْقَلْبِ يُشْبِهُ مِنْ وَجْهٍ تَسْخِيرَ الْمَلَائِكَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَى طَاعَتِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ خِلَافًا، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَالِمَةٌ بِطَاعَتِهَا لِلرَّبِّ، وَالْأَجْفَانُ تُطِيعُ الْقَلْبَ بِالِانْفِتَاحِ وَالِانْطِبَاقِ عَلَى سَبِيلِ التَّسْخِيرِ، وَإِنَّمَا افْتَقَرَ الْقَلْبُ إلَى الْجُنُودِ مِنْ حَيْثُ افْتِقَارُهُ إلَى الْمَرْكَبِ وَالزَّادِ لِسَفَرِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَطْعُ الْمَنَازِلِ إلَى لِقَائِهِ، فَلِأَجْلِهِ خُلِقَتْ الْقُلُوبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَإِنَّمَا مَرْكَبُهُ الْبَدَنُ وَزَادُهُ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوَصِّلُهُ إلَى الزَّادِ وَتُمَكِّنُهُ مِنْ التَّزَوُّدِ مِنْهُ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، ثُمَّ أَطَالَ فِي هَذَا الْمَعْنَى. انتهى، وقد فرق العلماء بين القلب والروح، وحاصل ما ذكروه نورده منقولا عن صاحب موسوعة فقه القلوب: ولفظ القلب يطلق على معنيين: أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، يدخل فيه الدم، ثم يدفعه بواسطة العروق لتغذية البدن، الثاني: لطيفة ربانية روحانية، لها بذلك القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمطالب، والمثاب والمعاقب، ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسماني، أما الروح: فهو جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، ينتشر بواسطة العروق إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن، وفيضان أنوار الحياة والحس، والسمع والبصر والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت، وسريان الروح، وحركته في باطن الإنسان، يشبه حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه، أما النفس: فتطلق على ذات الإنسان، وهي اللطيفة التي هي نفس الإنسان وذاته، وتطلق على المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني