الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في انكشاف بعض القدم في المسح

السؤال

قرأت في فتاويكم أنه إذا ظهر جزء من القدم، يعني من الكعبين فما تحت، هنا يبطل المسح عند جمهور أهل العلم، ومنهم من قال مثل ابن عثيمين -رحمه الله- أن المسح لا يبطل. فهل يقصد هنا العلماء بالمسح كليا؟ يعني يقصد الجمهور بأن المسح يفسد، وعليه أن يعيد الوضوء تماما، أم يعيد الوضوء، والمسح على الخفين. يعني إن صليت الظهر ومسحت على الجوربين، وظهر جزء من كعبي، أو مما تحت كعبي، وصليت، وأخذت بقول ابن عثيمين، وأتت علي صلاة العصر فهل أعيد الوضوء تماما، وأخلع الجوربين، أم أمسح على الجوربين ولا شيء علي؛ لأنني هنا لم أخلع الجوربين تماما، وإنما ظهر جزء من قدمي! وإنما خلاف العلماء كان في وقت المسح فورا، وليس في المسح كليا؟
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

ففي السؤال نوع غموض، ولكننا نقول على كل حال: إذا ظهر شيء من محل الفرض، فهو كنزع الخف، فيبطل به المسح عند الجمهور، ومن ثم يجب استئناف الطهارة عند بعضهم، ويجزئ غسل الرجل عند بعضهم، ويرى الشيخ ابن عثيمين أن نزع الخف لا يبطل المسح المتقدم، فيصلي بوضوئه ذاك ما شاء من الصلوات، فإذا أحدث، لم يجز له المسح على الخفين، بل لا بد من غسل رجليه.

قال ابن قدامة، مبينا الخلاف فيما إذا خلع خفيه بعد المسح عليهما، ونحوه ما إذا انكشف بعض محل الفرض: إذَا خَلَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، بَطَلَ وُضُوءُهُ. وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ غَسْلُ قَدَمَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ نَابَ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ خَاصَّةً، فَطُهُورُهُمَا يُبْطِلُ مَا نَابَ عَنْهُ، كَالتَّيَمُّمِ إذَا بَطَلَ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَجَبَ مَا نَابَ عَنْهُ.

وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، فَمَنْ أَجَازَ التَّفْرِيقَ، جَوَّزَ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَعْضَائِهِ مَغْسُولَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا غَسْلُ قَدَمَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَهُمَا كَمَّلَ وُضُوءَهُ. وَمَنْ مَنَعَ التَّفْرِيقَ أَبْطَلَ وُضُوءَهُ؛ لِفَوَاتِ الْمُوَالَاةِ، فَعَلَى هَذَا، لَوْ خَلَعَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ جَفَافِ الْمَاءِ عَنْ يَدَيْهِ، أَجْزَأَهُ غَسْلُ قَدَمَيْهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ خَلَعَهُمَا قَبْلَ مَسْحِهِ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: لَا يَتَوَضَّأُ، وَلَا يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْمَمْسُوحَ عَلَيْهِ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ بَعْدَ غَسْلِهَا؛ وَلِأَنَّ النَّزْعَ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَالطَّهَارَةُ لَا تَبْطُلُ إلَّا بِالْحَدَثِ. انتهى.

فهذا عن نزع الخف، والذي فيه الخلاف المبين، وأما مجرد انكشاف بعض القدم، فهذا مبطل للمسح عند الجمهور، فمن رأى منهم أن نزع الخف يوجب إعادة الوضوء، وجب على قوله إعادة الوضوء في هذه الصورة، ومن رأى أنه يجزئ غسل الرجلين، أوجب غسلهما واكتفى بذلك، ومن العلماء من يرى أن انكشاف بعض القدم لا يبطل المسح أصلا، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وترجيح الشيخ ابن عثيمين، وعلى هذا القول فيجوز الاستمرار في المسح على هذا الخف، إلى حين نزعه، أو انقضاء المدة.

قال الشيخ رحمه الله: وقال بعض العلماء: إنه لا يُشترطُ أن يكون ساتراً للمفروض. واستدلُّوا: بأن النُّصوص الواردةَ في المسح على الخُفَّين مُطْلَقةٌ، وما وَرَدَ مُطْلَقاً فإنه يجب أن يبقى على إِطلاقه، وأيُّ أحد من النَّاس يُضيف إِليه قيداً، فعليه الدَّليل، وإلا فالواجب أن نُطلق ما أطلقه اللَّهُ، ورسولُه صلى الله عليه وسلم، ونقيِّد ما قيَّده الله ورسولُه. ولأن كثيراً من الصَّحابة كانوا فُقَراء، وغالب الفُقراء لا تخلو خفافهم من خُرُوق، فإذا كان هذا غالباً، أو كثيراً من قوم في عهد الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم؛ ولم ينبِّه عليه الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم، دَلَّ على أنَّه ليس بشرط. وهذا اختيار شيخ الإسلام. وأما قولهم: إِنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغُسْلُ، فلا يجامع المسحَ، فهذا مبنيٌّ على قولهم: إِنه لا بُدَّ من ستر المفروض، فهم جاؤوا بدليل مبنيٍّ على اختيارهم، واستدلُّوا بالدعوى على نفس المُدَّعَى، فيُقال لهم: مَنْ قال: إِنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغُسْل؟ بل نقول: إِن الخُفَّ إِذا جاء على وفق ما أطلقتْه السُّنَّةُ؛ فما ظَهَرَ من القدم لا يجب غسْلُه، بل يكون تابعاً للخُفِّ، ويُمسحُ عليه. انتهى.

وأما إذا كان الخف الملبوس أسفل من الكعبين، فالشيخ يرى أن الاحتياط ترك المسح عليه.

قال رحمه الله: إذا كان الخف دون الكعبين، فمن العلماء من أجاز المسح عليه، ومنهم من لم يجز المسح عليه، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم إذا لم يجد نعلين: (فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) قال: وهذا دليل على أن الخف الذي أسفل من الكعبين، حكمه حكم النعل، وليس حكم الخف، فالاحتياط: إذا كان الخف دون الكعبين، ألا تمسح عليه، تبعاً لرأي الجمهور. انتهى.

والحاصل أن المسح يبطل عند الجمهور بنزع الخف، وكنزع الخف ظهور بعض القدم، وهم مختلفون في الواجب، فمنهم من أوجب إعادة الوضوء وهو أحوط، ومنهم من أوجب غسل الرجلين فقط، وأما مذهب الشيخ ابن عثيمين فهو يرى جواز المسح على الخف الذي يبدو منه بعض محل الفرض، ويرى أن نزع الخف لا يبطل المسح السابق، ولكن يجب على هذا الشخص إذا أحدث أن يتوضأ، ويغسل رجليه، ولا يجوز له أن يستديم المسح على الخفين بعد نزعهما.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني