الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ذم التشبه بغير المسلمين ولزوم تحري مخالفة محدثات الجاهلية القديمة والمعاصرة

السؤال

وجدت في فتح الباري ما نصه في شرح حديث: لتتبعن سنن....: قال عياض: الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه ـ ألا يعني كلامه أن المحرم من الاقتداء بهم مقتصر على ما هو محرم في أصله عندنا؟ ولماذا تستدلون بهذا الحديث عند قولكم بحرمة عيد الأم وعيد ميلاد الشخص.... أعلم أنه هناك أدلة أخرى لتحريم هذه الأعياد, إلا أنني أريد أن أسألكم عن ما ذكرته, ألا يجب عدم الاستدلال بحديث: لتتبعن سنن... عند سرد أدلة تحريم هذه الأعياد بعدما تبين أن التقليد المنهي عنه هو ما أصله محرم؟ وهل هناك شرح فوق شرح الإمام ابن حجر في فتح الباري؟ أم أنني أخطأت الفهم؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا يخفى على أحد أن الأمور المحرمة والمنهي عنها والمذمومة في شرعنا ـ لا يجوز فعلها، سواء أفعلها من قبلنا أم لم يفعلوها، وعلى ذلك فقصر دلالة الحديث على ما هو محرم في أصله عندنا، فيه تضييع لمقصد ملحوظ من هذا الحديث المبارك! هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن كلام القاضي عياض الذي نقله الحافظ ابن حجر، لا يقتصر في الاستدلال بالحديث على الأمور المحرمة كالمعاصي مثلا، فإن التشبه بغير المسلمين في أمرهم وحالهم مذموم في شرعنا ومنهي عنه، حتى ولو كان أصله مباحا، وهذا أصل مقرر في الشريعة، دل عليه الكتاب والسنة دلالة مستفيضة، سواء في ذلك العبادات أو الأعياد أو الأزياء الخاصة بهم، كما سبق أن نبهنا عليه في الفتوى رقم: 116802.

ومن السنة العملية في تحري النبي صلى الله عليه وسلم لمخالفتهم في ما أصله مباح، قوله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم. رواه البخاري ومسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم. رواه أبو داود، وصححه الألباني.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر به حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اجلسوا، خالفوهم. رواه أبو داود، وصححه الألباني.

وقد أدرك يهود المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حرصه الشديد على مخالفتهم، حتى قالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. رواه مسلم.

وقد سبق أن بينا لزوم تحري مخالفة سنة وعادات أهل الجاهلية بأنواعهم، وذكرنا علاقة هذا الحديث بذلك وبموضوع الأعياد، فراجع للأهمية الفتويين رقم: 130821، ورقم: 153595.

ومع ذلك، فإن شراح الحديث لم يقتصروا على ما اقتصر عليه القاضي عياض، قال ابن الملقن في التوضيح: أخبر عليه السلام: أن أمته قبل قيام الساعة يتبعون المحدثات من الأمور والبدع، والأهواء المضلة، كما اتبعتها الأمم من فارس والروم، حتى يتغير الدين عند كثير من الناس. اهـ.

وقال الصنعاني في التنوير: الحديث إعلام وإخبار بأن الأمة ـ والمراد غالبها ـ تشابه الأمم في المعاصي وباقي أنواع ما يأتونه غير الكفر، وهو تحذير عن تشابه من قبلهم في أفعالهم وأخلاقهم، وقد صدق إخباره صلى الله عليه وسلم، فقد سلك الناس مسالك الأمم في الابتداع والاتساع وإقامة الحدود على الضعفاء دون الشرفاء، وقبول الرشا، والاتساع في شهوات الدنيا، وزخرفة المساجد، واتخاذ القبور أوثاناً، وغير ذلك مما يعرفه كل عارف. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: هذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات، فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمه الله ورسوله، وهو المطلوب ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك، فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها. اهـ.

وقد روى البخاري قبل حديث أبي سعيد هذا، معناه من حديث أبي هريرة مرفوعا، بلفظ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِإِخَذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ... الحديث.

قال ابن قرقول في مطالع الأنوار: كذا ضبطه بعضهم، جمع: إخْذَة، مثل: كِسْرَة وكِسَر، وكذا ذكره ثعلب، ومعناه الطرق والأخلاق، يقال: ما أخذ إِخْذَه، بالكسر، أي: ما قصد قصده، وإِخْذ القوم: طريقهم وسبيلهم، وقال غيره: يقال: جاء بنو فلان، ومن أَخَذَ إِخْذَهُم وأَخْذَهُم وأُخْذَهُم، وقد ضبطه أكثر الرواة بفتح الهمزة وسكون الخاء، أي: يسلكون سبيل القرون المتقدمة، ويفعلون أفعالهم، ويتناولون من الدنيا مثل ما تناولوا، وهذا كقوله: "لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني