الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم من أنكر الرجم للزاني المحصن

السؤال

هل إنكار رجم الزاني المحصن يدخل في إنكار ما علم من الدين بالضرورة؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن حد الرجم للزاني المحصن قد أجمع عليه كل فقهاء الأمة، إلا الخوارج وبعض المعتزلة، الذين أنكروه وقالوا: لا نجده في كتاب الله، ولا عبرة بخلافهم، حتى صار أهل السنة والجماعة يذكرونه في كتب العقائد، رداً عليهم وبياناً لضلالهم ومخالفتهم سبيل المؤمنين، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، منهم ابن المنذر وابن حزم والنووي، وكذا ابن قدامة، كما ذكرناه في الفتوى رقم: 5132.

ورجم الزاني المحصن هو وإن كان مجمعاً عليه، إلا أنَّا لا نرى أنه من المعلوم من الدين بالضرورة، فإن المعلوم بالضرورة هو ما لا تقدر نفس مسلمٍ على دفعه بعد العلم بأن المسلمين عليه، لاستفاضته بين العامة والخاصة، كوجوب الصلاة والزكاة وصيام رمضان والحج، وكحرمة الظلم والسرقة والخمر، أما قبل العلم به كحديث العهد بإسلام، فإنه لا يكفر قبل التعريف وإقامة الحجة، أما ما لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة فلا يكفر جاحده وإن كان مجمعاً عليه، كما قال الدميري: يجري في جحود كل مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فإن جحد مجمعًا عليه ليس معلومًا من الدين بالضرورة كاستحقاق بنت الابن مع البنت السدس.. فليس بكافر، بل يعرف الصواب ليعتقده. اهـ.

وانظر الفتوى رقم: 78151.

فالمعلوم من الدين بالضرورة ـ في مسألتك ـ هو نفس حرمة الزنا، أما عقوبتها المخصوصة، فإن كان الجلد، فإن منكره من المسلمين بعد قيام الحجة عليه كافرٌ مرتدٌّ يستتيبه ولي الأمر، فإن تاب، وإلا قُتل، لأنه يكون جاحداً لآيةٍ من كتاب الله وهي قوله جل شأنه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {النور:2}.

قال ابن المقري في مختصر الروضة في بيان المرتد: أو كذب نبياً، أو جحد آية من المصحف مجمعاً عليها. اهـ.

أما الرجم، فهو وإن كان مجمعاً عليه، إلا أنه لا يظهر لنا أنه من المعلوم بالضرورة، وليس منكره مكذباً لآيةٍ من القرآن مقطوعٍ بها، لكن إذا قامت عليه الحجة وتبيَّن له الأمر، فإنه لا يحكم بردته، لكنه ضالٌّ غاوٍ من أعظم الناس بدعةً وضلالة، يخشى عليه من الكفر والزندقة بسبب اتباع الهوى، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. متفق عليه.

قال ابن الجوزي في كشف المشكل: فمعنى قول عمر: فيضلوا ـ أن الإجماع انعقد على بقاء حكم ذلك اللفظ المرفوع من آية الرجم، وتركُ الإجماع ضلال. اهـ.

وقال ابن حجر: وقد وقع ما خشيه عمر أيضاً، فأنكر الرجمَ طائفة من الخوارج أو معظمهم وبعض المعتزلة. اهـ.

وقد قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {النساء:115}.

وراجع الفتوى رقم: 69765.

وقد روى أبو الحسين الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، وابن عساكر في تاريخ دمشق عن حسان بن فروخ، قال: سألني عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه: عما تقول الأزارقة، فأخبرته، فقال ما يقولون في الرجم؟ فقلت: يكفُرون به، فقال: الله أكبر، كفروا بالله ورسوله! وحدَّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجم ماعز بن مالك فلما أصابته الحجارة صرخ، فقال بعض القوم: أبعَدَه الله، فزجره عليه السلام وقال: إنها كفارة له. اهـ.

وقوله فيه: كفروا بالله ورسوله ـ محمولٌ على كفرٍ دون الكفر الذي يخرجهم من الملة، فإنه لم يُنقل أنه حكم في هؤلاء بحكم المرتدين، وهو لم يحتجَّ على قوله: كفروا ـ بأنه أمرٌ مستفيض يعلمه الخاص والعام من المسلمين بالضرورة، بل احتج بحديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً، ولا يمتنع أن يكون دليل الإجماع من أخبار الآحاد، واتفاق العلماء على كون هذا من الدين لا يستلزم أن يصير معلوماً بالضرورة لكل المسلمين، والمشهور عند أهل العلم من مذهب عمر بن عبد العزيز في طوائف الحرورية عدم تكفيرهم، فلو كان يحكم بردةِ من أنكر حد الرجم لكونه معلوماً من الدين بالضرورة.. لكفّر جميع الخوارج أو أكثرهم، الأزارقة وغيرهم، ولم ينقل عنه أنه يفرِّق بين طائفة منهم وطائفة، بل المنقول من سيرته فيهم واحد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا كان أهل السنة مع أهل البدعة بالعكس: إذا قَدَروا عليهم لا يعتدون عليهم بالتكفير والقتل وغير ذلك، بل يستعملون معهم العدل الذي أمر اللهُ به ورسولُه، كما فعل عمر بن عبد العزيز بالحرورية والقدرية. اهـ.

وكذلك من كفَّر الخوارج من السلف، لم ينقل عنهم أنهم كفَّروهم لأجل إنكار الرجم، بل كفَّروهم لأجل استحلالهم دماء المسلمين بتأويل ركيك، مع ما ورد في الندب إلى قتلهم والأجر المترتب عليه، من لسان النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن كلام العُمرينِ فيمن أنكر الرجم يدل على شناعة هذا القول وعِظَمِه في نفوس السلف، وأنه قول ممجوج يكفي في العلم ببطلانه أنه قد انفرد به الخوارج وأشباههم من الفرق الضالة المبتدعة، نسأل الله لنا ولكم العافية في الدين واتباعَ سبيل المتقين.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني