الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم العمل في مصلحة الضرائب

السؤال

أحبكم في الله.
عندي سؤال: أنا من الجزائر، عمري 25 سنة، رزقني الله -وله الحمد- الاستقامة على طريقة، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والدي من المحافظين على الصلاة، وخاصة صلاة الفجر، وهو الذي رباني على الصلاة، والصدقة، والإحسان. ونحن نعيش في مدينه صغيرة (قرية) فيها من الجهل، والبدع، الله المستعان، حتى من هو على السنة، يقولون له: يا بولحية (يا صاحب اللحية) ليس لدينا إمام، أو مشايخ على السنة.
الوالد عنده 52 سنة، يعمل في مصلحة الضرائب، لكن هذه الأيام قرأت فتوى لشيخ: أبو عبد المعز، محمد علي بن بوزيد بن علي فركوس، وهو جزائري على مذهب السنة والجماعة، يقول إن هذا العمل محرم.
هذا نص الفتوى http://ferkous.com/home/?q=fatwa-6
ونحن كما تعلم في دولة علمانية، لا نعرف الحلال من الحرام، وخاصة الأعمال التي فيها شبهات.
أريد منكم الرد، وكيفية التوبة من هذا العمل، وما يترتب عليه؛ لأن الوالد لا يعرف أنه محرم، وحتى الشباب المتخرجون من الجامعة يسجلون في مسابقة التوظيف في هذه المصلحة بالآلاف.
لعلمك يا شيخ الوالد يأخذ أجرا معتبرا، وهو يوشك على التقاعد، وهنالك منحة التقاعد كل شهر، وهي معتبرة.
فأفدنا يا شيخ، إني لا أنام الليل من التفكير.
بارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالعمل في الضرائب، ينبني حكمه، على حكم الضرائب ذاتها، فمنها ما هو مباح، يجوز العمل فيه، وأخذ الراتب عليه، ومنها ما هو محرم، لا يجوز العمل فيه، ولا أخذ الراتب عليه. وقد سبق لنا بيان ذلك، مع التنبيه على أن تنزيل هذا الحكم على واقع كل بلد، يُرجع فيه إلى أهل العلم في هذا البلد.
ونبهنا أيضا على أن النوع المحرم من الضرائب، إذا عمل فيه المسلم بقصد تخفيف الظلم، ورفع ما يقدر عليه منه، فلا حرج عليه في ذلك، بل هو مأجور على قصده، وسعيه. وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 5811، 294352، 34112، 69979، 186809.
ولمزيد إيضاح هذا الأمر، ننقل جوابا متينا لشيخ الإسلام ابن تيمية، حيث سئل -رحمه الله- عن رجل متول ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره، وولى غيره، فإن الظلم لا يترك منه شيء؛ بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه، فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها، وهو عاجز عن ذلك، لا يمكنه ردها. فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه؟ وقد عرفت نيته واجتهاده، وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم، بل يبقى ويزداد. فهل يجوز له البقاء على الولاية، والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل؟ أم لا؟ وإذا لم يكن عليه إثم، فهل يطالب على ذلك؟ أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله، أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة. وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده؛ لما لها في ذلك من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم. فهل الأولى له أن يوافق الرعية؟ أم يرفع يده والرعية تكره ذلك؛ لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده؟

فأجاب -رحمه الله -: الحمد لله، نعم إذا كان مجتهدا في العدل، ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع، خير من استيلاء غيره كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك؛ بل بقاؤه على ذلك، أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك عليه واجبا، إذا لم يقم به غيره، قادرا عليه. فنشر العدل بحسب الإمكان، ورفع الظلم بحسب الإمكان، فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم. وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها، لا يطالب بها، وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالا، لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف، وإذا لم يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر الظلم، أو يزيده، ولا يخففه: كان أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم، خيرا للمسلمين من إقرارها كلها، ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان، فهو أقرب من غيره، ومن تناوله من هذا شيء، أبعد عن العدل والإحسان من غيره، والمقطع الذي يفعل هذا الخير، يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين، غير ظالم لهم، يثاب، ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره، ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدا في العدل والإحسان، بحسب الإمكان ... ". إلى آخر ما قال، وراجعه بطوله في (مجموع الفتاوى 30 / 356 : 360).

ونرى في ذلك مخرجا لوالدك، إن كانت الضرائب في بلدكم جائرة محرمة، فما كان من عمله في الماضي لا يعلم بحرمته، فهو معذور فيه بجهله.

قال الشيخ ابن باز: إذا كان عن جهالة، فله ما سلف، وأمره إلى الله، قال الله جل وعلا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} فإذا كان جاهلا، فله ما سلف، أما إذا كان عالما ويتساهل، فليتصدق بالكسب الحرام، إذا كان نصف أمواله، أو ثلثها، أو ربعها كسب حرام، يتصدق به على الفقراء والمساكين، أما إذا كان جاهلا، لا يعلم، ثم علم، وتاب إلى الله، فله ما سلف. اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين: إذا كان قد أخذه، فإن كان جهلاً منه ولا يدري أنه حرام، فإن توبته تجب ما قبلها، وهو له؛ لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275] وأما إذا أخذه وهو يعلم أنه حرام، لكنه كان ضعيفاً في الدين، قليل البصيرة, فهنا يتصدق به, إن شاء في بناء المساجد، وإن شاء في قضاء الديون عمن عجز عن قضائها, وإن شاء في أقاربه المحتاجين؛ لأن كل هذا خير. اهـ.

وأما ما يستقبل من أمره، فلينظر إن كان له مدخل في رفع الظلم أو تخفيفه، وقصد بعمله أن يسعى في ذلك، فله أن يبقى فيه، ويتأكد ذلك إن كان من سيخلفه في العمل لا يبالي بظلم الناس، والإجحاف بهم. وإن كان ليس له مدخل في رفع الظلم، أو تخفيفه، فلا يجوز له البقاء في هذا العمل.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني