الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تقسيم الولاية إلى ولاية مطلقة ومطلق الموالاة

السؤال

سمعت خطبة للدكتور عدنان إبراهيم يتكلم فيها عن الولاء والبراء، وذكر أن بعض المفسرين عند تفسير آية: ومن يتولهم منكم... قسم الولاية إلى ولاية مطلقة، ومطلق الموالاة، فهل عند وصف حال الرضا بدين غير المسلم وتصحيحه يمكن أن نصفه بولاية مطلقة بدلًا من موالاة مطلقة عند المقارنة بمطلق الموالاة، بحيث نقول: هناك نوعان من موالاة غير المسلم: ولاية مطلقة، ومطلق الموالاة - أي لغويًّا-؟ وهل الولاية المطلقة تعني موالاة مطلقة عند وصف شيء معين بأن ذلك قد ينقض الإسلام؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ندري من هم هؤلاء المفسرون الذين قسموا الولاية إلى: ولاية مطلقة، ومطلق الموالاة.

وممن استعمل عبارة: مطلق الولاية، ابن عرفة في تفسيره، حيث قال: قوله تعالى: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا ـ وقال في أول السورة: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ـ.

والجواب: أن هذا في عموم المؤمنين بالنسبة إلى المشركين، وتلك في قضية حاطب، فيقيد في هذا النهي عن مطلق الموالاة، وفي تلك النهي عن اختصاصها؛ لأنا إن قلنا: إنها نزلت في اليهود من جهة أنهم كانوا يوالونهم بعض موالاة فهو أتم حكمًا، فلم يقع في أخص الموالاة، بل أعمها، وأما أخصها فمعلوم من المخاطب عدم الاتصاف به حيث ما شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحضوره بدرًا، أو أنه مغفور له.

فإن قلت: كيف ينهى عن مطلق الموالاة، وقال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ـ.

قلت: المراد بذلك المسالمة والمشاركة لَا الموالاة.

فإِن قلت: المراد بالإقساط الإعطاء، وقيل: المعروف بالنفل، وقد ذكر عياض في المدارك أن القاضي إسماعيل قام لنصراني، واحتج بالآية.

قلت: لَا حجة في ذلك. اهـ. بتصرف وتصحيح لبعض الألفاظ.

وما ذكره عن ترتيب المدارك للقاضي عياض ذكره في ترجمة إسماعيل القاضي، فقال: حدث الدارقطني أن إسماعيل القاضي دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير، وكان نصرانيًّا، فقام له ورحب به، فرأى إنكار الشهود ذلك، فلما خرج، قال: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى: لا ينهاكُمُ اللهُ عن الذين لم يُقاتِلوكُم في الدين ـ الآية، وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكتت الجماعة عند ذلك. اهـ.

ونقله القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن، وقال ابن الجوزي في زاد المسير: قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة. اهـ.

وعلى أية حال؛ فالموالاة المطلقة تعني الموالاة التامة الكاملة من كل وجه، ومطلق الموالاة يعني أصل الولاية، وأقل ما ينطبق عليه اسمها، قال البدراني في كتابه الولاء والبراء والعداء في الإسلام: الأصل حملُ الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة على الولاء المطلق، وهو الولاءُ التام الكامل، لا على مُطلق الولاء ما لم يقترن به ما يدلّ على خلاف ذلك. اهـ.

والمعروف في هذا الباب من التفريق: هو تفريق بعض أهل العلم بين مصطلح الولاية، ومصطلح التولي، جاء في كتاب الولاء والبراء والعداء في الإسلام: لفظ الموالاة أعم من التولي، حيث إن الموالاة هي المحبة، بغض النظر عن درجة هذا الحب ومرتبته، فكل من أحببته وأعطيته ابتداءً، من غير مكافأة، فقد أوليته وواليته، والمعنى أي: أدنيته إلى نفسك...

أما التولي: فهو الموالاة المطلقة، أي: بمعنى تقديم كامل المحبة والنصرة للمُتولَّى، بحيث يكون المتولّي مع المُتولَّى كالظل مع الجسم، فهي ذروة الموالاة ومُنتهاها... فالتولي إذن بمعنى الاتخاذ والاتباع المطلق، وهو يعني الانقطاع الكامل في نصرة المتبع، وتقريبه، وتأييده... وعلى هذا؛ فالتولي أخص من الموالاة، فكل تولٍّ داخل في مفهوم الموالاة، وليس كل موالاة داخلة في مفهوم التولي كما أسلفنا. اهـ.

ثم عقد بحثًا للفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي ومناط التكفير فيهما، وقال: اختلف أهل العلم في الفرق بين الموالاة والتولي، فمنهم من يرى أن التولي مرادف لمعنى الموالاة سواء بسواء، كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ ولذلك فهو يستعملهما على أنهما لفظان مترادفان، فيقول عن التولي عند تفسيره لقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {الممتحنة: 9} إن الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليًا تامًّا كان ذلك كفرًا مُخرجًا عن الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه.... ومنهم من يرى أن هنالك فرقًا بين الموالاة والتولي... يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: إن الموالاة تنقسم إلى قسمين:

أولًا: موالاة مطلقة عامة، وهذه كفر صريح، وهي بهذه الصفة مرادفة لمعنى التولي لأجل الدين، وعلى ذلك تُحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار، وأن من والاهم فقد كفر.

ثانيًا: موالاة خاصة، وهي موالاة الكفار لغرض دنيوي، مع سلامة الاعتقاد، وعدم إضمار نية الكفر والردة، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة في إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو مكة، كما هو مذكور في سبب نزول سورة الممتحنة، ومثل كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تقسيم الموالاة إلى مطلقة وخاصة، كلام القرطبي، وابن العربي، وسليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن علي بن عتيق، وعلى قول هؤلاء جميعًا: أن الموالاة المطلقة العامة مرادفة لمعنى التولي، وهي بهذا الوصف كفر وردة، ومنها ما هو دون ذلك بمراتب، ولكل ذنب حظه، وقسطه من الوعيد والذم، بحسب نية الفاعل وقصده... انتهى.

وقال الرازي في تفسيره عند قوله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ {آل عمران: 28} قال: اعلم أن كون المؤمن مواليًا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون راضيًا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع منه؛ لأن كل من فعل ذلك كان مصوبًا له في ذلك الدين، وتصويب الكفر كفر، والرضا بالكفر كفر، فيستحيل أن يبقى مؤمنًا مع كونه بهذه الصفة....

وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه.

والقسم الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين، هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم، والمعونة، والمظاهرة، والنصرة، إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة، مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه؛ لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام، فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال: ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين، فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم، فذلك ليس بمنهي عنه، وأيضًا فقوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ـ فيه زيادة مزية لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه مواليًا، فالنهي عن اتخاذه مواليًا لا يوجب النهي عن أصل مولاته، قلنا: هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية، إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم، دلت على سقوط هذين الاحتمالين. اهـ.

وأخيرًا: ننبه على أن المدعو عدنان إبراهيم ليس ممن يعتمد على كلامه وتأصيله، وقد سبق أن ذكرنا شيئًا عن حاله في الفتاوى التالية أرقامها: 206872، 227374، 222112.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني