الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفارق بين علة فرض الحجاب وحِكمته

السؤال

كتب بعض الفضلاء، هذا الإشكال حول العلة من الحجاب.
فما جوابكم؟
للتأمل فقط: الآية التي فرضت الحجاب، على أزواج النبي وبناته، ونساء المؤمنين، نصت على العلة، ولم تتركها لاجتهاد المجتهدين، وتأويل المتأولين. أوقد سراج عقلك واقرأ:(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما)
العلة كما هي منصوص عليها: أن يعرفن بالإحصان والشرف، فلا يؤذين من السفهاء ونحوهم ...
ماذا حين تتغير معايير المجتمع، ويصبح لبس الحجاب مدعاة للأذى، وما هو فوق الأذى. لست مفتيا، ولا فقيها، ولا مفسرا، ولكنني عربي أقرأ ذكر العرب ...
أعجب كيف أن الفقهاء توافقوا على علة مقدرة (أمن الفتنة) وتغافلوا عن العلة المنصوص عليها، وأهملوها بل ألغوها (أن يعرفن فلا يؤذين).!

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فتنزلا على طريقة تفكير صاحب هذا المنشور واستنباطه، نقول: إن حكمة فرض الحجاب في الآية هي قوله تعالى: أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ {الأحزاب:59}، بمعنى: أن يعرفن بالعفة، أو يُعرف أنهن حرائر لا إماء. ثم هذه الحكمة لها هي الأخرى حكمة بذاتها، وهي قوله تعالى: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) بمعنى أن كف الأذى عنهن مترتب على هذه المعرفة، لا على ذات الحجاب! فإذا تغيرت معايير المجتمع -على حد تعبير الكاتب- بحيث صار الأذى يقع على من عرفت بالعفة، فهذا المجتمع يشبه مجتمع قوم لوط الذين قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] ولا يمكن لعاقل أن يقول بمراعاة هذا العرف الفاسد الفاجر - درءًا للأذى- وإباحة التعايش مع عاداته وتقاليده المخالفة لمكارم الأخلاق، التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها!
والمفترض في المسلم الذي ينظر في علل الأحكام الشرعية: أنه إنما ينظر في ذلك ليعدي الحكم المنصوص عليه إلى غيره مما لا نص فيه، لا لإبطال الحكم المنصوص عليه، وكان مقتضى ذلك لمن تدبر آية الحجاب في سورة الأحزاب أن يقول: كل ما من شأنه أن تعرف المسلمة بسببه بالعفة والتصون، فهي مأمورة به.
وهذا كله من باب التنزل، وإلا فعلة فرض الحجاب على نساء المؤمنين هي: كون المرأة أنثى بالغة، وأما الحِكم من تشريع الحجاب فكثيرة، وإذا انتفى بعضها، فالبعض الآخر باق، كما نبهنا عليه في الفتوى رقم: 55578. ولا بد من التفريق بين علة الحكم وحِكمته، فالأحكام إنما تدور مع العلل لا الحِكم، فلا يصلح التعليل بالحكمة، ولا يُستند عليها في القياس، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 287158. وبهذا يُعرَف الخلط العجيب والخطأ الواضح في قول القائل: "أعجب كيف أن الفقهاء توافقوا على علة مقدرة ( أمن الفتنة) وتغافلوا عن العلة المنصوص عليها وأهملوها بل ألغوها ( أن يعرفن فلا يؤذين)". !!!
على أنا لا نعرف أحدا من الفقهاء المعتبرين، نص على أن علة فرض الحجاب هي: أمن الفتنة! كما أننا لا نعرف أحدا من أهل العلم ـ لا الفقهاء ولا غيرهم ـ وقع في إهمال، فضلا عن إلغاء ـ الاستفادة من قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]! وإنما هو شيء في نفس أو وهم الكاتب. وأما الفقهاء فيذكرون مسألة أمن الفتنة في حكم النظر إلى ما ليس بعورة من المرأة ـكالوجه والكفين عند من يرى أنهما ليسا من عورتهاـ فيرجح بعضهم الجواز عند أمن الفتنة، ويمنع بعضها مطلقا سدا للذريعة. وهذا محل خلاف بين أهل العلم.

قال ابن القطان في (إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر): ويبقى علينا بعد هذا المتقرر في حقِّ النساء من جواز بدوِّ الوجه والكفين على غير قصد التبرج، بحكم ضرورة التصرف، ما يحضرنا من أمر النظر إلى ذلك؛ أيمنع مطلقًا؟ أم يجوز إذا لم يخف الفتنة، ولم تقصد اللذة؟ يأتي ذكره بعدُ إن شاء الله تعالى. اهـ.
ثم إن مسألة أمن الفتنة ليست بعيدة عن معاني القرآن، ويدركها كل عربي يقرأ ذكر العرب! وحسبنا في ذلك قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فما عساها العلة أو الحكمة التي من أجلها استثنى الله: غير أولي الإربة من الرجال، والأطفال الصغار الذين لم يطلعوا على عورات النساء؟
وما عساها العلة أو الحكمة أيضا من استثناء القرآن من حكم الحجاب للعجائز اللاتي لا يشتهين من النساء، في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح، أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلبابها، ولا تحتجب، وإن كانت مستثناة من الحرائر؛ لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثنى التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم؛ لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 77247.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني