الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم التورع عن أكل اللحوم المحلية والمستوردة

السؤال

بسم الله الرّحمن الرّحيم
جزاكم الله خيراً، ونفع بكم، وجعل عملكم كلّه خالصاً لوجهه الكريم.
إخواني أضعكم في الصورة في البداية؛ ليكون السؤال، والمطلوب واضحاً.
أقيم في بلد مسلم عربي، وأود السؤال عن الدجاج واللحوم بشكل عام: مستوردة ومحلية، وعن حكم الأكل منها؟
والمسألة أنّي أشك في حلّها مستوردة، ومحلّية، فحتّى اللّحوم المحلّية التي يذبحها مسلمون، قد لا تذبح بطريقة شرعية، وأغلب الظّن أنّ من يقوم بالذّبح لا يلتزم فيها بالذّبح الشّرعي، ولا يلتزم بالتّسمية عند الذّبح.
فاللحوم والدجاج المستورد الذي يأتي من أمريكا، وفرنسا، والبرازيل مثلاً وإن كانت دولاً نصرانية، وحتى إن كان يكتب عليها حلال، لكن طرق الذبح عندهم قد لا تكون شرعية، وقد يتم الصعق، وقتل الحيوان قبل ذبحه، وقد يكون الذّابح أو من يقوم على تشغيل آلة الذبح ملحداً، أو مشركاً بوذيّاً، أو هندوسيّاً.
والدجاج المجمّد، والمذبوح محلّياً وإن كان من يقوم عليه مسلمون، فأغلب الظّنّ أن الذّابح لا يذكر اسم الله عليه؛ لجهل الذّابح، أو تساهله في تعلم ما يجب عليه، ومنهم من لا يصلي، ويفطر في رمضان، وما يُسمع عن غذائها الذي يحتوي على العلف المركّز، وما فيه من دّم، أو حيوانات ميتة مطحونة، تخلط مع الحبوب ليصنع منها هذا العلف.
والتورع عنها بعد التجربة صعب، حيث إنها موجودة في معظم أنواع الطعام عند العائلات المتوسطة، والغنية في بلادنا، وأغلب الأيام يكون الطعام محتويا على الأرز والدجاج، والمشكلة يا شيخ أنك حتّى إن تركت تناول الدجاج، فالطعام والأرز يطبخ بمرق هذا الدجاج.
وأرجو يا شيخ أن لا تأخذ المسألة من باب الوسوسة، بل عندي غلبة ظنّ أنّ معظمها ذبائح غير شرعية، لم تذبح بالطريقة الإسلامية، وما ذبح منها قد تختل فيه شروط الحل من حيث إسلام الذّابح، أو قيامه بالتسمية على الذّبيحة؟
أنا شخصيّاً قد ألتزم بالذّبائح الشرعية إن كنت أعيش في منزل لوحدي، وقد أحرص على الذّبح بيدي، أو عند من أعلم يقيناً بالتزامه بالذّبح الشّرعي، لكن المشكلة يا شيخ أنني أعيش عند أهلي، وطعامهم بشكل شبه يومي يحتوي على هذه اللحوم.
وماذا أفعل عندما أدعى لوليمة، أو طعام عزيمة عند إخواني أو أقاربي، أو وليمة عرس، أو غيرها، فقطعاً الطعام يحتوي على تلك اللحوم، ويصرون علي أن أتناول من الطعام، وقد يغضبون إذا لم آكل من طعامهم، وأنا الآن طالب في الجامعة، وجيراني في السكن قرب الجامعة كثيراً ما يهدون لي طعاماً يحتوي على هذه اللحوم، وفي آخر مرتين، وبعد أن علمت عن مسألة اللحوم والذبائح، ألقيت الطعام للقطط ولم آكله، وأنا الآن أتجنب تناول الطعام من المطاعم؛ لأنه يحتوي على تلك اللحوم، ويطبخ بمرقها؟
وأرجو يا شيخ أن تكون الإجابة واضحة، صريحة، فالمسألة ليست وسوسة مجرّدة، بل عندي (غلبة ظنّ) أن اللحوم والدجاج المحلي في دولتي المسلمة، والمستورد من الدول النصرانية، ليست ذبائح تتحقق فيها الشروط الشرعية لتكون الذبيحة حلالا.
فهل هناك تفصيل، وحكم واضح في المسألة فيما يجوز أكله، وما لا يجوز؟ وماذا أفعل؟ وكيف أجيب إخواني والناس إن تركت التناول من طعامهم وولائمهم؟ وهل إن اقتصرت على التناول من اللحوم والدجاج المذبوح في بلدي المسلم (مع غلبة ظنّي أن معظمها ليست ذبائح شرعية) هل أكون بذلك آثماً، وآكلاً للحرام؟ وهل التورع عنها صواب، مع العلم بصعوبته، وما يترتب عليه من مشقة، أو سوء تفاهم مع الأهل والأقارب والأصحاب، وقد يدفعني هذا لتجنب حضور مناسباتهم، ورفض دعواتهم؛ لتجنب الأكل من هذه اللحوم والطعام المطبوخ بمرقها؟ وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد سئلت اللجنة الدائمة: ما حكم ذبائح المسلمين المتداولة في أسواقهم، ما ذبحوه منها بأنفسهم، والوارد إليهم؟
فأجابت: الأصل في المسلم أنه لا يظن به في كل شيء إلا الخير، حتى يتبين خلاف ذلك، وعلى هذا فذبائحه تحمل على أنها موافقة لأحكام الشريعة في التسمية‍، وكيفية الذبح، فتؤكل ذبيحته، وفي «حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن قوما قالوا: يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم ولا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا. قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر» رواه البخاري والنسائي وابن ماجه. وأما اللحوم المستوردة من الخارج: فإن كانت من ذبائح المسلمين، فالحكم فيها كما تقدم، وإن كانت من ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى، ولم يعرف عنهم أنهم يقضون على الحيوانات بالصرع الكهربائي ونحوه، فتؤكل، وإن عرف عنهم أنهم يخنقونها، أو يصرعونها بالكهرباء مثلا حتى تموت، فلا تؤكل؛ لأنها ميتة، وإن كانوا من غير المسلمين وأهل الكتاب الشيوعيين، والملحدين، ومشركي العرب ومن في حكمهم، فلا تؤكل ذبائحهم .اهـ.

فهذا هو الجواب عن مجمل سؤالك.

بقي أن نبين مشروعية التورع عن أكل اللحوم الموجودة في أسواق المسلمين، فنقول: أما اللحوم المذبوحة في بلاد المسلمين، فالأصل أن التورع عن أكلها من التنطع والتكلف والتعمق غير المشروع، كما سبق في الفتوى رقم: 286693.

وقد سئل ابن عثيمين: ما حكم فعل بعض الإخوان عندما يذهبون إلى المطاعم، ويسألون عن الدجاج الموجودة عندهم، ويلحون عليهم ويقولون: هذا من باب الورع كي لا يقعون في الشبهة؟

فأجاب: إن هذا ليس من الورع، الورع اتباع السنة، ليس الورع أن الإنسان يتعنت، ويتعمق ويتنطع، بل هذا من الهلاك، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هلك المتنطعون) ثلاث مرات، قالت عائشة رضي الله عنها: (إن قوماً أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالوا: يا رسول الله! إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا أنتم وكلوا، قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر) توهم مسلمين يمكن تخفى عليهم الأمور، فقالوا: (سموا أنتم وكلوا) ما قال: اسألوهم هل سموا أم لا، ولو سلكنا طريق هؤلاء، لقلنا حتى في مطاعمنا: نسأل ربما يكون الذي ذبح هذه الدجاجة، أو الشاب لا يصلي، والإنسان الذي لا يصلي كافر، ولا تحل ذبيحته، فهل معنى ذلك أن نأتي عند المطعم ونقول: من الذي ذبحه؟ أخذته من السوق، ما سألت: هل هو يصلي أم لا يصلي؟ سأله وقالوا: يصلي. نقول: هل أنهر الدم أو خنقها خنقاً؟ إذا قال: أنهر الدم. نقول: باقي هل سمى الله أم لا؟ إذا قال: سمى الله. نقول: هل هذه الدجاجة والشاة ملك له وليس سارقها ولا ناهبها؟! -هذه حقيقة إذا ظل الواحد يتعمق-، قال: لا. اشتراها، من أين؟ الذي باعها عليه هو سرقها أم ماذا؟ إلى ما لا نهاية له. فالحقيقة أن الإنسان إذا فتح على نفسه هذه الأبواب -مع أنها مسدودة شرعاً- تعب .اهـ. من لقاء الباب المفتوح.

وأما اللحوم المستوردة من دول أهل الكتاب: فالورع عنها حسن؛ لقوة ما فيها من شبهة ذبحها بغير الطريقة الشرعية، وإن كان القول بإباحة أكل اللحوم المستوردة من دول أهل الكتاب حال الاشتباه فيها، قد أفتى به علماء معتبرون، وهو قول فيه توسعة على الناس، ورفع للحرج عنهم، كما سبق تفصيله في الفتوى رقم: 214684.

قال ابن عثيمين: هذه اللحوم المستوردة من غير البلاد الإسلامية من دجاج وغيرها، مما يحل أكله نرى فيها أنها جائزة الأكل، وأنه لا حرج من أكلها ولكننا نظرا لكثرة الخوض فيها، والقال والقيل نرى أن تجنبها أولى، وأن الإنسان يستغني بما لا شبهة فيه، عما فيه الشبهة. وأما تحريم ذلك، فلا يثبت، فإنه قد ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مما ذبحه اليهود، كما في الشاة التي أهديت له في خيبر) وكذلك (دعاه غلام يهودي وهو في المدينة، وقدم له فيما قدم إهالة سنخة) والأهالة السنخة قال أهل العلم: إنها الشحم المتغير، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسأل عليه الصلاة والسلام المرأة اليهودية التي أهدت إليه الشاة لم يسألها كيف ذبحتها؟ ولا هل سمت عليها أم لا؟ فما ذبحه من تحل ذبيحته من مسلم، أو يهودي، أو نصراني فإنه يؤكل ولا يسئل كيف ذبح؟ ولا هل سمى الله عليه أو لم يسم؟ وفي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت إن قوما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا :يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (سموا أنتم وكلوا) قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر، فدل هذا على أن الإنسان إذا قدم له من يحل له أكل ذبيحته لحما، فإنه يأكله ولا يبحث كيف ذبح؟ ولا هل سمي عليه أم لا؟ هذا ما تقتضيه السنة، ولكن كما قلت قبل قليل: إنه نظرا لكثرة الخوض فيما يرد من تلك البلاد غير الإسلامية، فإنه إذا تورع عنه إلى غيره فهو أولى، ونحن لا نحرم هذا اللحم الوارد. اهـ. من فتاوى نور على الدرب.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني