الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خوف الرياء سلاح ذو حدين

السؤال

في البداية أود أن أشكركم جزيل الشكر، وأسأل الله العلي القدير أن يجزيكم ألف خير، وأن يجعله في ميزان حسناتكم، وفرج عنكم كل هم وضيق.
في الحقيقة لدي استفساران، وأعتذر مقدما عن الإطالة.
الاستفسار الأول هو عن حفظ القرآن الكريم، وتعلم التجويد: منذ سنيتن تقريبا نويت أن أحفظ كتاب الله، وقد قرأت كتابا عن هذا الموضوع. وفعلا بدأت بحفظ بعض السور، وقد اقتربت من ختم جزء عم. ولكن المشكلة هي أنني لا أعلم التجويد، وفي بعض الأحيان أشعر بأن حفظ كتاب الله أمانة عظيمة، ولا أدري إن كنت أستطيع فعل ذلك. أخاف بأن لا تكون تصرفاتي وأفعالي دالة على تصرفات حافظ القرآن، وأحيانا أخاف من الرياء، ولهذا فإني قد نويت أن أقوم بعملية الحفظ دون أن أخبر أحدا.
أعلم بأنني سأتغير مع حفظي لكتاب الله، وبأن التغير يحتاج إلى وقت، وبأن فهمي واستيعابي للآيات سيساعدني في عملية التغيير، ولكن في بعض الأحيان أشعر بأنني لا أستحق هذه المرتبة، أشعر بأني بعيدة كل البعد عن أن أنال هذه المرتبة. أريد أن أتغير حقا، أريد أن تكون أخلاقي متمثلة بأخلاق القرآن، ولكن لا أعلم كيف. بالإضافة إلى أني لا أعلم من التجويد إلا ما قد تيسر منه، أما بالنسبة للتلاوة والترتيل فلا أعلم كيف للأسف. ولهذا فمنذ سنة تقريبا توقفت عن الحفظ، لكني أريد أن أبدأ بحفظ كتاب الله تعالى من جديد، وأن أستغل فترة الإجازة هذه في الحفظ ولكنني لا أعلم كيف سأبدأ مع كل هذه المخاوف، والأفكار، بالإضافة إلى تعلم التجويد والتلاوة.
أما بالنسبة إلى الموضوع الثاني، فهو عن ثقتي بنفسي، أو بالأحرى ثقتي بجمالي. صراحة لي فترة أعاني من هذا الموضوع، ولا تتخيلون مدى تأثيره السلبي علي. أنا أعلم، وواثقة بأن جمال الفتاة هو بعفتها وحيائها، ولكن في زمننا هذا للآسف بات بعض الناس لا يركزون على هذه الأشياء وحسب. ما يضايقني أكثر هو أنني لا ألقى مديحا أو ثناء من الناس إلا قليلا، ودائما ما تتم المقارنة بيني وبين أخواتي الأخريات.
في الحقيقة دائما ما أثني على جمال شقيقاتي أمام الناس، بل وأفتخر بهن، ولكن أسلوب مقارنة الناس يجعلني أفقد ثقتي بنفسي، إلى أن أصبحت أجتنب الاختلاط بالناس، أو حتى المجالس النسائية. وما يؤلمني أكثر هو أسلوب والدتي -حفظها الله- عندما تعجب بجمال فتاة ما...، أتمنى أن أكون بجمال تلك الفتاة، حتى أنال قليلا من مديحها.
والمشكلة أني أصبحت أتفاجأ أو أستغرب عندما يمدحني أحد، ويقول بأني جميلة. في الحقيقة بات هذا الأمر يؤلمني كثيرا، ويسبب لي الضيق وكل ما حاولت أن أبني ثقتي انهدمت بسبب موقف ما. في البداية كنت أعتبر نفسي جميلة قليلا أو أني مقبولة الشكل، ولكن بسبب ما أراه على مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقف التي مررت بها انعدمت لدي الثقة، ومع أني أحاول قدر الإمكان أن أعتني بنفسي وبمظهري.
فأرجو الإفادة جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهنيئا لك الاشتغال بقراءة وحفظ القرآن الكريم، فإن الاشتغال بحفظ القرآن الكريم، والحرص على العمل به، والتخلق بأخلاق أهله أمر عظيم.

ويتعين الحرص على المراجعة، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على مراجعة المحفوظ منه وتعاهده، والاهتمام به فقال: تعاهدوا القرآن، فو الذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها. متفق عليه.

وينبغي للمشتغل بالقرآن أن يحرص على تعلم تجويده، وانظري الفتوى رقم: 49673، والفتوى رقم: 1055.
وأما الإخلاص فهو مهم جدا، وبالنظر في فضائل حفظ القرآن، ومراقبة النية بإذن الله تسلمين من الرياء الذي تخشينه، ويتعين البعد عن ترك الاشتغال بالقرآن خوفا من الرياء؛ فإن ذلك من مداخل الشيطان.

فقد قال العز بن عبد السلام: الشيطان يدعو إلى ترك الطاعات، فإن غلبه العبد وقصد الطاعة التي هي أولى من غيرها أخطر له الرياء ليفسدها عليه، فإن لم يطعه أوهمه أنه مراء، وأن ترك الطاعة بالرياء أولى من فعلها مع الرياء، فيدع العمل خيفة من الرياء؛ لأن الشيطان أوهمه أن ترك العمل خيفة الرياء إخلاص، والشيطان كاذب في إيهامه، إذ ليس ترك العمل خوف الرياء إخلاص.. مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل.

وقال ابن تيمية: وَمِنْ طَلَبِ الْعِلْمَ، أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ خير فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُ لَا لِلَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِن الشُّرَكَاءِ، فَلَيْسَ مَذْمُومًا؛ بَلْ قَدْ يُثَابُ بِأَنْوَاعٍ مِن الثَّوَابِ. الفتاوى الكبرى.

وعليك بالنظر في مخاطر الرياء، والنصوص الواردة في الترهيب منه فإن ذلك من أعظم الزواجر عنه، ففي الحديث: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً. رواه أحمد.

وأما عن مسألة الجمال: فإن الإنسان أكرمه الله تعالى بحسن الصورة وجمالها، كما قال تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {التغابن:3}، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ {الانفطار:6-8}، وقال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {التين:4}.
وروى أحمد في مسنده من حديث الشريد بن سويد الثقفي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلا مِنْ ثَقِيفٍ، حَتَّى هَرْوَلَ فِي أَثَرِهِ، حَتَّى أَخَذَ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: "ارْفَعْ إِزَارَكَ" قَالَ: فَكَشَفَ الرَّجُلُ عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنِّي أَحْنَفُ، وَتَصْطَكُّ رُكْبَتَايَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَنٌ"

ففي ضوء هذا الحديث، يتبين لك أن خلقتك مهما كانت فهي حسنة؛ لأنها خلق الله عز وجل، فعليك أن تستشعري فضل ربك عليك وتنظري إلى ما ميزك الله به من الخصائص وحباك من الفضائل، وأن الفضل عند الله ليس بمجرد الحسن والجمال، ولكنه بتقوى الله عز وجل، وباشتغالك بالقرآن والعلم وعملك به، تكتسبين الخيرية والفضل والجمال المعنوي الحقيقي، الذي يجعلك محبوبة عند الخلق، كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ {الحجرات:13}،

وفي حديث البخاري: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض.

وننصحك بالسعي في الزواج، وحمل النفس على العفة والاستقامة، والإكثار من الدعاء في أوقات الإجابة بأن ييسر الله لك كفؤا كريما يكون عونا لك على حفظ القرآن، والعمل به، وتغيير حياتك إلى الأفضل، ولا غضاضه على المرأة أن تعرض نفسها على من يرتضى دينه وخلقه، ويمكن أن يتم ذلك بطلبه بواسطة إحدى محارمه، ويمكن أن يكون بواسطة أبيها هي أو أخيها، كما عرض عمر بنته حفصة على أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني