الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أقوال العلماء في الاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب والإصرار عليه

السؤال

استغفرت الله من ذنب لا زلت أقترفه، فهل أنا كالمستهزئ بربه؟ -عياذا بالله- وهل أكون كفرت؟
أنا نطقت الشهادتين بنية الدخول في الإسلام، وأنا حاليا أصوم كفارة يمين، وصمت اليوم الأول، وحدث هذا الشيء، فهل ما وقعت فيه من الكفر يبطل يومي الأول، وعلي صوم ثلاثة أيام من جديد؟
(حديث مرفوع) أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو السَّعَادَاتِ أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمُتَوَكِّلِيُّ ، بِبَغْدَادَ ، أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ ، بِنَيْسَابُورَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيُّ الصَّفَّارُ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَّمَدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْقُرَشِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ الْيَامِيُّ ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ سَالِمٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْحِمْصِيُّ ، عَنْ عَاصِمٍ الْجُذَامِيِّ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ ، وَمَنْ آذَى مُسْلِمًا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ كَذَا وَكَذَا " ، وَذَكَرَ شَيْئًا .

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا تلازم بين الكفر وبين معاودة الذنب، وعدم الإقلاع عنه، فاقتراف الكبائر -فضلا عن الصغائر- والمداومة عليها، لا تخرج العبد من الملة، ولكن صاحبها متوعد بعقاب الله تعالى، وهو في المشيئة. وقد سبق لنا بيان أن الإصرار على المعصية لا يلزم منه استحلالها، ولا الوقوع في الكفر، وراجعي في ذلك الفتاوى التالي أرقامها: 130184، 120664، 135853.
وأما الحديث الذي ذكره السائل، فإنه لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضعفه ابن رجب والعراقي وابن حجر والألباني وغيرهم.
وأما المسألة التي تستحق النظر والمدارسة فهي: مسألة نفع الاستغفار مع عدم الإقلاع عن الذنب ! فهي محل نظر، وقد اختلف توجيه أهل العلم فيها:
ـ فمنهم من ينص على أن استغفار اللسان مع إصرار القلب، له حكم الدعاء، وبالتالي ينفع صاحبه إن استجاب الله له، قال الحافظ ابن رجب في (جامع العلوم والحكم): أما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه، وإن شاء رده. وقد يكون الإصرار مانعا من الإجابة، وفي " المسند " من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: «ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون». وخرج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعا: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه» ورفعه منكر، ولعله موقوف ... وقول القائل: أستغفر الله، معناه: أطلب مغفرته، فهو كقوله: اللهم اغفر لي، فالاستغفار التام الموجب للمغفرة: هو ما قارن عدم الإصرار، كما مدح الله أهله، ووعدهم بالمغفرة، قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره ... فأفضل الاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نصوح، وإن قال بلسانه: أستغفر الله وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة، كما يقول: اللهم اغفر لي، وهو حسن وقد يرجى له الإجابة، وأما من قال: "توبة الكذابين"، فمراده أنه ليس بتوبة، كما يعتقده بعض الناس، وهذا حق، فإن التوبة لا تكون مع الإصرار. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذنوب يزول موجبها بأشياء: (أحدها) التوبة. و (الثاني) الاستغفار من غير توبة. فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب؛ فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال. اهـ.
وقال في منهاج السنة: الاستغفار هو طلب المغفرة، وهو من جنس الدعاء والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعو ولا يتوب ... اهـ.
وقال في موضع آخر: أما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع لله من غير إقلاع عنه، فهذا في نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه. وهو كالذي يسأل الله تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه، وهذا يأس من رحمة الله، ولا يقطع بالمغفرة له، فإنه داع دعوة مجردة. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر، قال: الله أكثر» فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة، وإذا لم تحصل فلا بد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر، فهو نافع كما ينفع كل دعاء. وقول من قال من العلماء: الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين، فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو يدعي أن استغفاره توبة، وأنه تائب بهذا الاستغفار، فلا ريب أنه مع الإصرار لا يكون تائبا، فإن التوبة والإصرار ضدان: الإصرار يضاد التوبة، لكن لا يضاد الاستغفار بدون التوبة. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): رأيت في الحلبيات للسبكي الكبير: الاستغفار طلب المغفرة، إما باللسان، أو بالقلب، أو بهما، فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت، ولأنه يعتاد قول الخير. والثاني نافع جدا. والثالث أبلغ منهما لكنهما لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة، فإن العاصي المصر يطلب المغفرة، ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه. اهـ.
ومن أهل العلم من ينبه على اشتراط التوبة في قبول الاستغفار، قال صديق حسن خان في (فتح البيان في مقاصد القرآن) عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء 110] قال: في هذه الآية دليل على حكمين:

(أحدهما) أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر.

(والثاني) أن مجرد الاستغفار كاف، كما هو ظاهر الآية. وقيل: إنه مقيد بالتوبة. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. اهـ.
وقال ابن القيم في (الداء والدواء): ومنها – أي عقوبات الذنوب - أنها تضعف القلب عن إرادته، فتقوي إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله، فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك. اهـ.
والذي يظهر لنا أن استغفار اللسان ينفع صاحبه إن اقترن ببغض المعصية، وانزعاج القلب منها، والرغبة في الإقلاع عنها خوفا من الله تعالى، مع صدق القلب في توجهه إلى الله، وتعلقه برجاء رحمته؛ بخلاف من حرك لسانه بالاستغفار وقلبه غافل عن الله، متعلق بالمعصية حبًا ورغبةً وعزيمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

قد يقال على هذا الوجه: الاستغفار هو مع التوبة، كما جاء في حديث {ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم مائة مرة} وقد يقال: بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر؛ فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب، وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب كما في حديث البطاقة، بأن قول: لا إله إلا الله ثقلت بتلك السيئات؛ لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقي الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان. اهـ.
وراجع في الفرق بين التوبة والاستغفار، الفتوى رقم: 199931. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 136839.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني