الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نصائح لمن أصابه اليأس والاكتئاب بسبب المرض

السؤال

تحية طيبة، وبعد:
أود عرض مشكلتي للرد عليها من قبل حضراتكم، فأنا طالب في إحدى الكليات العلمية، وتخرجت آنفا من الثانوية، وفوجئت بإصابتي بأحد الأمراض، ولله الحمد، وهو دوالي الخصية.
المهم أني دخلت في حالة اكتئاب، وكانت لدي طموحات جمة، ولكن أشعر كأنها تبخرت، وأنها ذهبت أدراج الرياح، فمع أني ولله الحمد على كل حال ملتزم، وأعرف الله، وأحبه، ولي عين بكاءة، فكثيرا ما بكيت على وقع آية، أو حديث، أو قصة عن أحد الصالحين، ولكن لا أدري لماذا كان وقع هذا الخبر (خبر المرض) كوقع الصاعقة التي بددت طموحاتي، فقد كنت أخطط لحفظ القرآن والأحاديث، والتفوق، وممارسة الرياضة، وأن أكون فردا صالحا، وشعلة نور في مجتمعي، ولكن هذا المرض أشعرني أن الحياة لم تعد لها قيمة، وعندما أقرأ عن الابتلاء في الإسلام، وأنه ليس برهان بغضب من الله، وأن الصالحين قد ابتلوا، والأنبياء كذلك، يذهب روعي، وتسكن نفسي، ويطمئن قلبي، ولكن ما إن يمر الوقت وأتذكر دائي، حتى يعود الحزن، وتتملكني الكآبة، ومع أني أعرف معلومات إسلامية كثيرة ، فكثيرا ما قرأت عن الابتلاءات، وعن الصحابة، وعن أيوب، وعن يونس، وعن يحيى وزكريا اللذين استشهدا على يد أحد الفجرة، وهما من هما، ونحن من نحن. ولكن التطبيق العملي لهذه العبر والعظات، يصعب، والصبر والمواصلة يشقان علي.
فأسألكم بالله الدعاء لي بظهر الغيب، علَّ الله أن يصلح شأني، ويشفيني.
ولي شخصية وسواسية، فأقرأ عن هذا المرض كثيرا، وأتوقع الأسوأ دائما، ولا أدري أهذا تشاؤم، أم إن الأفضل أن يتوقع الإنسان النتيجة الأكثر تشاؤما ليوطن نفسه عليها، وهذا الداء حسب علمي في بعض الحالات، وهي الأقل، يسبب العقم. وكل ما أذكر ذلك أحزن.
والسؤال بعد هذا العرض المبين هو: كيف تعود لي نفسي الطموحة الراضية المطمئنة، وأواصل المسيرة سعيدا راضيا، رغم الداء؟
وكيف أعود لله راضيا بقسمه، وحكمه، وقدره؟
وهل قد يكون الله يحبني ويبتليني؟ وهل لو كان المرض بسبب ذنوب اقترفناها. فهل هذا أيضا قد يكون حبا من الله كي يطهرنا أم عقابا؟
والسؤال الثاني هو عن الدعاء لرفع المرض: هل هو للأمراض التي تعالج، أم لكل الأمراض المستعصي منها والمعالج؟
وما الرد على من يقول: أدعو منذ كم سنة، ولا يستجاب لي. فكيف أزيل هذه الشبهة؟
وأنا والله مؤمن بالله، كما أؤمن أني موجود، ولكن ليطمئن قلبي.
أثابكم الله، ورفع ذكركم في الدنيا والآخرة، وطيب ثراكم ولا تنسوني من دعائكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنا نسأل الله لنا ولك العافية مما تعاني منه، وأن يوفقك لتحقيق طموحاتك، وأن يرزقك حفظ القرآن والحديث، ونفيدك أنه لا يمكننا الجزم بأن ما يحصل من الابتلاءات لشخص ما، سببه ذنوب أو غيرها، ولكنا نوصيك بعلاج الأمر بالصبر، والإكثار من الاستغفار والدعاء، وسؤال الله العافية، وحسن الظن بالله تعالى؛ فإن المرض قد يكون عقوبة، فيجب على المريض التوبة والصبر، وقد يكون ابتلاء واختباراً، فالواجب عليه الصبر، فإن صبر ورضي، فله الرضا من الله تعالى، وجزيل الثواب، فقد قال العباس رضي الله عنه: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة. وروى الترمذي عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع.

وفي رواية: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب، أو أم المسيب فقال: مالك يا أم السائب، أو يا أم المسيب تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد.
وفي الحديث: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له. رواه مسلم.

وعليك بتذكر نعم الله التي لا تحصى ولا تعد، فما يصاب به العبد من البلاء لا يساوي شيئا في مقابل ما أسبغ الله عليه من النعماء، فكم من الناس يتضجر ويتسخط للفقر الذي نزل به، أو المرض الذي ألمَّ به، وينسى حين ذاك أنه غارق في نعم الله عليه، فهو يتمتع بنعمة الحياة، ونعمة البصر، وإلاَّ لكان أعمى يقاد في الطرقات لا يهتدي سبيلاً، ونعمة السمع، وإلا لكان أصم يتحدث الناس بجواره ولا يعقل ما يقولون، ونعمة العقل، وإلا لكان مجنوناً يقذره الأقربون، ويلعب به الأطفال، ونعمة اللسان، وإلا لكان أبكم لا يفصح عما يريد، ونعمة الهواء والماء والطعام والمسكن والأولاد، وكل شيء حوله، وصدق الله إذ يقول: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20].
واعلم أن الدعاء يشرع لجميع الأمراض، وهو المفتاح لقضاء جميع الحاجات، فقد روى الحاكم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل، فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة. والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع.

وقال ابن القيم في الفوائد: إذا كان كل خير أصله التوفيق, وهو بيد الله، لا بيد العبد, فمفتاحه الدعاء، والافتقار، وصدق اللجأ، والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح، فقد أراد أن يفتح له, ومتى أضلّه عن المفتاح، بقي باب الخير مرتجًا دونه. اهـ.

وأما عن شبهة استعجال الإجابة، فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا في قوله: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي. رواه البخاري ومسلم.

وفي قوله: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء. رواه مسلم.

قال ابن القيم: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء: أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً، أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه، تركه وأهمله. انتهى.
وجاء في شرح رياض الصالحين للعلامة الشيخ ابن عثيمين: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ـ يعني أن الإنسان حري أن يستجيب الله دعاءه إلا إذا عجل، ومعنى العجلة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول: دعوت، ودعوت، فلم أر من يستجيب لي، فحينئذ يستحسر ويدع الدعاء، وهذا من جهل الإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمنعك ما دعوته به إلا لحكمة، أو لوجود مانع يمنع من إجابة الدعاء، ولكن إذا دعوت الله، فادع الله تعالى وأنت مغلب للرجاء على اليأس حتى يحقق الله لك ما تريد، ثم إن أعطاك الله ما سألت فهذا المطلوب، وإن لم يعطك ما سألت، فإنه يدفع عنك من البلاء أكثر وأنت لا تدري، أو يدخر ذلك لك عنده يوم القيامة، فلا تيأس ولا تستحسر . ادع ما دام الدعاء عبادة فلماذا لا تكثر منه؟ بل أكثر منه استجاب الله لك، أو لم يستجب، ولا تستحسر، ولا تسئ الظن بالله عز وجل، فإن الله تعالى حكيم يقول الله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ـ والله الموفق. اهـ.
ولمعرفة بعض الأمور المعينة على اكتساب رضوان الله، والصبر وعلو الهمة، وكشف البلاء وتجاوز المصائب، راجع الفتاوى أرقام: 5249 73790، 320419، 327133، 122246، 93185.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني