الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تقرير النبي صلى الله عليه وسلم المجرد من الثناء والاستحسان

السؤال

ذكر الجيزاني في كتاب: قواعد البدع صفحة92 عن الآثار التي عمل بها السلف قليلًا، أو حدثت مرة واحدة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: إنها مما فعل فلتة، فسكت عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك لا يفعلها الصحابي، ولا يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم, مثل أبي لبابة عندما ربط نفسه بسارية المسجد.
أولًا: أليس قد سكت النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وهذه سنة أقرها، فنعمل بها، كالسنة الفعلية.
ثانيًا: قال الكاتب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها بعد ذلك, وما علمنا أنه لم يشرعها؛ لأنها قد تكون حدثت مرة واحدة فقط، فكيف علمنا أنها غير مستحبة، وليست بسنة إذ أقرها صلى الله عليه وسلم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فمجرد سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على فعل بعد علمه به، لا يدل على استحبابه، أو سنيته، وإنما يدل على جواز هذا الفعل في مثل هذه الحال فحسب، بحيث لا ينكر على فاعله، قال الجصاص في الفصول في الأصول: يقع من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الحكم بالإقرار على فعل شاهده من فاعل يفعله على وجه من الوجوه، فيترك النكير عليه، فيكون ذلك بيانًا منه في جواز فعل ذلك الشيء على الوجه الذي أقره عليه، أو وجوبه إن كان شاهده يفعله على وجه الوجوب فلم ينكره. اهـ.

وقال ابن عثيمين في الأصول من علم الأصول: وأما تقريره صلّى الله عليه وسلّم على الشيء، فهو دليل على جوازه على الوجه الذي أقره، قولًا كان أم فعلًا. اهـ.

وهذا الجواز لا يقال فيه: هو سنة بمعنى مستحب، وإنما يدل فقط على الإباحة ورفع الحظر، قال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام: أما إقراره عليه السلام على ما علم، وترك إنكاره إياه، فإنما هو مبيح لذلك الشيء فقط، وغير موجب له، ولا نادب إليه. اهـ.

وقال الشيخ ابن عثيمين: لا نقول: إن هذه سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرها، وإنما نقول: هي جائزة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلها، ولم يأمر بها، وإنما أقرها، وفائدة ذلك أننا لا نبدع من يفعل ذلك.

وبهذا يظهر الفرق بين إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، ففعله يدل على السنية مطلقًا، بخلاف تقريره المجرد من الثناء والاستحسان، فهو لا يدل إلا على رفع الحظر والإنكار، هذا من حيث الإجمال في إقراراته صلى الله عليه وسلم.

وفي بعض ما يقره صلى الله عليه وسلم تفصيل يوجبه حال الفعل والفاعل، وقد فصّل في ذلك العلامة الشاطبي في الموافقات، ومنه لخص الدكتور الجيزاني ما هو محل السؤال، ومن جملة ما يحتاج إلى تفصيل: ما يقع من فاعله ابتداء من غير تشريع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يظهر فيه وجه التعبد، ويقع على وجه الندرة المخالفة للمعهود في مثل هذه الحال، فلا يُظهر التقرير هنا إرادة تعميمه، وجعله محلًّ للاقتداء، قال الشاطبي في الموافقات: ومنها: أن يكون مما فعل فلتة، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي، ولا غيره، ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأذن فيه ابتداء لأحد، فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنًا له، ولغيره، كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في أمر، فعمل فيه، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله، فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه، فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دوامًا، أما الابتداء: فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما دوامًا: فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه، وهذا خاص بزمانه؛ إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي، وقد انقطع بعده، فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر الحكم فيه، وأيضًا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل، ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله، لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فيما بعده، فإذا العمل بمثله أشد غررًا؛ إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له، ولو كان قبله تشريع، لكان استمرار العمل بخلافه كافيًا في مرجوحيته. اهـ.

ويؤكد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ـ ففي ذلك أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة كان مخالفًا لاختياره لنفسه، ويتأكد هذا أيضًا بأنه قد روي في قصة أبي لبابة ما لا يصح الاقتداء به قطعًا بعد انقضاء زمن التشريع، وهو امتناعه عن الطعام والشراب حتى كاد يهلك، قال ابن عبد البر في الاستذكار: اختلف في قصة أبي لبابة هذه متى وقعت؟ فقيل: كان ذلك في حين أشار إلى بني قريظة... وقيل: بل كان ذلك من أبي لبابة حين تخلفه عن غزوة تبوك... وهذا عندي أصح... وروى عبد الرزاق، وأبو يوسف، ومحمد بن ثور عن معمر عن الزهري قال: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، وقال: والله لا أحل نفسي منها حتى أموت، ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموت، أو يتوب الله عليّ ـ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًّا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له ذلك، فقال: لا أحل نفسي حتى يحلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله، وإلى رسوله، قال: يجزيك الثلث يا أبا لبابة. اهـ.

وقد عدَّ الدهلوي في حجة الله البالغة 2ـ 152ـ فعل أبي لبابة نوعًا من أنواع الغلبة التي هي حال من أحوال القلب، لا يستطيع صاحبها الإمساك عن موجبها، وافقت مقصود الشرع أو لا.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني