الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خير الدنيا والآخرة في الإقبال على الآخرة والزهد في الدنيا

السؤال

كيف أعرض عن هذه الدنيا، ولا أهتم بها، ولا بما فيها؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن هذا مقصود شريف، حث الله عليه عباده، ودعاهم إليه، ومما يتحقق به هذا المقصود، ويحصل به الزهد في الدنيا، والإعراض عنها أمور، منها: العلم بهوان الدنيا وحقارتها عند الله تعالى خالقها؛ وذلك أنها لا تساوي عنده -جلّ اسمه- جناح بعوضة، بل لو كانت تعدل عنده جناح بعوضة لم يسقِ منها كافرًا شربة ماء، يقول ابن القيم:

لو ساوت الدنيا جناح بعوضةٍ... لم يسق منها الرب ذا الكفرانِ

لكنها والله أحقر عنده... من ذا الجناح القاصر الطيرانِ.

والمؤمن ينزل الأشياء منزلتها من الله تعالى، ويزن كل شيء بميزانه سبحانه، فلا يعظم ما حقّره جل وعز، ولا يحقّر ما عظّمه سبحانه وبحمده.

ومنها: العلم بحقارة الدنيا في نفسها، وأنها سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، وقد ضرب الله لها الأمثال، ولسرعة زوالها، فحقرها، وهون أمرها، كما قال سبحانه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا {الكهف:45}.

وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها في الحقارة مثل الطعام إذا خرج من الإنسان بعد هضمه، فتراه لا يطيق النظر إليه تقذرًا، قال صلوات الله عليه وسلامه: إن مطعم ابن آدم قد جعل مثلًا للدنيا، وإن قزّحه وملّحه، فانظروا إلى ما يصير. رواه أحمد من حديث أبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه-.

فدنيا هذا شأنها، وهذه حقيقتها، كيف يركن إليها العاقل، وكيف يطمئن بها!؟ فكيف تركن إليها وقد رأيت كثرة جفائها، وقلة وفائها، وخسة شركائها!؟ فالعاقل كل العاقل هو من يعرض عن هذه الدنيا، ويجعل الآخرة همته.

ومنها: أن يعلم أنه إن أقبل على الدنيا فاته المقصود الأعظم، وهو الآخرة، وما فيها من النعيم المقيم، فالدنيا والآخرة ضرتان، متى سكنت إحداهما القلب طردت الأخرى ولا بد، فليجمع همته على أعظم المطلوبين، وأولاهما بالقصد.

ومنها: أن يعلم أن ما قدر له من هذه الدنيا فهو مدركه لا محالة، فما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فإذا استشعر هذا المعنى هدأ قلبه، واطمأنت نفسه، وطلب الدنيا بمقدار، ولم يلهث خلفها.

ومنها: النظر في حال أزهد الخلق في الدنيا، وأكثرهم إعراضًا عنها، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلو شاء أن تجري الجبال له ذهبًا لحصل له ما أراد، ولكنه أتته الدنيا، فضرب في صدرها باليدين، وردها على الأعقاب، وتقلل منها تقللَ من يعلم أنه راحل عنها، مفارق لها، فمات ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان ينام على حصير يؤثر في جنبه، ويربط الحجر من الجوع على بطنه، كل هذا وهو أكرم الخلق على الله، وأعظمهم عنده جاهًا، فلو كان لهذه الدنيا أدنى شأن لما كانت هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم معها.

ومنها: النظر في سير الزهاد وأخبارهم، ومطالعة أحوالهم، من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم، فإن النظر في ذلك يرقق القلب، ويحمل على التأسي بالقوم.

ومنها: أن يستحضر ذم الله تعالى للمتكالبين على الدنيا المنهمكين في طلبها، فيخشى أن يسقط من عينه سبحانه، وأن تنحط منزلته لديه، قال جل وعز: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {يونس: 7ـ 8}.

ومنها: أن يستشعر المنافع العظيمة الدينية، بل والدنيوية إن هو أعرض عن الدنيا، ولم يجعلها قبلة قلبه، وغاية قصده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. رواه أحمد، وابن ماجه.

والزهد في الدنيا هو سبب نيل محبة الله، بل ومحبة الناس، كما في الحديث: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. رواه ابن ماجه.

والحاصل: أن خير الدنيا والآخرة منوط بالإقبال على الآخرة، والرغبة فيها، والزهد في الدنيا، وعدم المبالاة بها، والعكس بالعكس، فمن استشعر هذه المعاني وغيرها مما في معناها، هان عليه الخطب، وسهل عليه الأمر، مع الاستعانة بدعاء الله تعالى ألا يجعل الدنيا أكبر الهم، ولا مبلغ العلم، والتوكل عليه سبحانه في هذا المقصود الجليل -نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا-.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني