الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إيضاح الإشكالات في حديث موسى عليه السلام وملك الموت

السؤال

يقال إن سيدنا موسى فقأ عين جبريل؟ عليه السلام, فإذا كان قد ذهب إليه بغرض قبض روحه، فهل عجز عن ذلك لقوة سيدنا موسى؟ أم أنه عصى أمر الله ولم يقبض روحه؟ أما إذا كان قد ذهب إليه لغرض آخر غير قبض روحه، فلماذا قال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلم يفقأ موسى ـ عليه السلام ـ عين جبريل عليه السلام، وإنما فقأ عين ملك الموت عليه السلام، كما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر.
وأما ما استشكلته على هذا الحديث: فقد أجاب عنه العلماء بأجوبة متعددة يتبين من خلالها أن ملك الموت لم يعجز عن قبض روح موسى عليه السلام، ولم يعص أمر ربه في قبض روحه، وإنما أُمر ملك الموت أن يتلطف في قبض روح موسى عليه السلام، وكذلك قول ملك الموت: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ـ ليس فيه أن موسى في الحقيقة لا يريد الانقياد إلى أمر ربه بقبض روحه، وإنما الأمر كما ذكر النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم: أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَدَافَعَهُ عَنْهَا فَأَدَّتِ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، لَا أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ. انتهى.

وقد أجاب عن هذه الإشكالات وغيرها كثير من أهل العلم، نذكر ما قاله ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ في كتابه: كشف المشكل من حديث الصحيحين بقوله: وَقد اعْترض بعض الْمُلْحِدِينَ على هَذَا الحَدِيث بأَرْبعَة أَشْيَاء:

أَحدهَا: كَيفَ يقدر الْآدَمِيّ أَن يفقأ عين ملك الْمَوْت، فَلَيْسَ الْملك بجسم كثيف؟ وَالثَّانِي: كَيفَ جَازَ لمُوسَى أَن يفعل ذَلِك برَسُول ربه، وَفِي طي هَذَا مراغمة الْمُرْسل؟ وَالثَّالِث: أَيْن شوق مُوسَى إِلَى لِقَاء الله تَعَالَى؟ وَالرَّابِع: كَيفَ خَالف الْملك مرسله فَعَاد وَلم يقبض نَفسه؟ فَالْجَوَاب: لما أكْرم الله عز وَجل مُوسَى بِكَلَامِهِ ومحبته إِيَّاه بعث إِلَيْهِ الْملك فِي صُورَة رجل ليتلطف فِي قبض روحه، فصادفه بشرا يكره الْمَوْت طبعا لما يعلم من ملاقاة مشاقه، فَدفعهُ عَن نَفسه وَهُوَ لَا يعلم أَنه ملك الْمَوْت، وَقد يخفى الْملك على النَّبِي إِذا جَاءَ فِي صُورَة الْبشر، كَمَا خفيت الْمَلَائِكَة على إِبْرَاهِيم وَلُوط، وخفي جِبْرِيل على نَبينَا لما جَاءَهُ فِي صُورَة رجل فَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، فروى الحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ من وُجُوه، فَفِي بَعْضهَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: مَا خَفِي عَليّ جِبْرِيل قطّ مثل الْيَوْم ـ وَفِي لفظ: مَا عَرفته حَتَّى ولى ـ وَفِي لفظ: مَا أَتَانِي قطّ فَلم أعرفهُ قبل مرتي هَذِه ـ وَفِي لفظ: مَا أَتَانِي فِي صُورَة قطّ إِلَّا عَرفته غير هَذِه الصُّورَة ـ فعلى هَذَا نقُول: دَفعه مُوسَى وَلم يعرفهُ، فصادفت تِلْكَ الدفعة عينه المركبة فِي الصُّورَة البشرية لَا الْعين الملكية، فَلَمَّا ذهب ملك الْمَوْت عَاد وَقد ردَّتْ عينه، فَتبين مُوسَى أَنه الْملك فاستسلم لقَضَاء الله سُبْحَانَهُ، وَقَالَ ابْن عقيل: يجوز أَن يكون مُوسَى قد أذن لَهُ فِي ذَلِك الْفِعْل بِملك الْمَوْت، وابتلي ملك الْمَوْت بِالصبرِ عَلَيْهِ، كقصة الْخضر مَعَ مُوسَى، فَأَما الشوق إِلَى لِقَاء الله سُبْحَانَهُ: فَإِنَّهُ لَا يُنَاقض كَرَاهِيَة الْمَوْت على مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة عِنْد قَوْله: من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه ـ وَأما عود الْملك فَإِنَّهُ أَمر بالتلطف فِي الْقَبْض، وَلم يجْزم لَهُ الْأَمر بِالْقَبْضِ فِي وَقت مَعْرُوف. انتهى.

ومما يؤكد عدم عجز ملك الموت من قبض روح موسى ما جاء في بعض روايات هذا الحديث عند الإمام أحمد، وفيها: قال: فَأَتَى مُوسَى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَأَتَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى، فَقَأَ عَيْنِي، وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَعَنُفْتُ بِهِ ـ وَقَالَ يُونُسُ: لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ ـ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ ـ أَوْ مَسْكِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: فَقَالَ مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ. قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: رجاله رجال الصحيح. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني