الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كلام الله بحرف وصوت لا يشبه كلام المخلوقين

السؤال

إذا كان الله يتكلم بحرف وصوت لأجل التواصل مع بقية الأشياء -مثل الملائكة- وهذه صفة ذاتية له، فماذا بقي للإنسان؟ فالإنسان يستخدم الصوت والحرف للتواصل، وبعض الحيوانات تستخدم أشياء غير الصوت والحرف للتواصل، أي: أن الصوت والحرف خاص بالإنسان، فالصوت صفة بشرية، والحروف يستخدمها الإنسان للتواصل مع إنسان آخر، فكيف تنطبق على من ليس كمثله شيء، والقرآن كلام الله حقيقة، ولكن كيفية كلام الله لله وحده، لا يعلمها إلا الله؟ فالله ذكر لنا النمل عندما قال: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون"، و النمل "علميًّا " يتخاطب عن طريق الرائحة والتلامس، ولكنه قال بطريقته نفس ما سبق، ومثل ذلك في آية: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، وظاهر الآية أن السماء والأرض تتكلم كلامًا بحرف وصوت، ولكن نحن نثبت كلام السماء والأرض، وكيفية ذلك وحقيقته مجهولة لنا، إذا كان هذا في حق المخلوق، أليس في حق الله أولى؟ ثم إن الاعتراف بالجهل بالكيفية، قاعدة من قواعد فهم الصفات عند أهل السنة والجماعة، فعندما نذكر أي صفة لله تعالى، نطبق عليها القواعد الثلاث التالية:
1- إثبات ما وصف الله به نفسه، ونفي ما نفاه عن نفسه.
2- إثبات عدم مماثلة، أو مشابهة شيء من صفات الله لصفات المخلوقين بأي وجه من الوجوه.
3- عدم التعرض للكيفية والحقيقة، وقطع الأطماع عن الوصول إليها.
فلماذا لا تطبق هذه القواعد مجتمعة على صفة الكلام لله تعالى؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد احتوى كلام السائل على بعض المغالطات، بل والتناقضات، ولو أنه أحكم فهم مذهب السلف، وأدرك معنى الحرف والصوت، وطبق ما ذكره هو من قواعد في ختام سؤاله، لما ذكر ما ذكر!

فإن أهل السنة الذين تمسكوا بمذهب السلف، وأثبتوا الحرف والصوت، لم يذكر واحد منهم -تصريحًا أو تلميحًا- أن هذا الصوت، وذاك الحرف، معناه أن كيفية تكلم الله تعالى، تشبه تكلم المخلوقين! بل على العكس، فهم يثبتون لله تعالى صفة الكلام، وينصون على أنه لا يشبه كلام المخلوقين، ولا يحتاج لجوف، وفم، ولسان، وشفتين، ونحو ذلك من أدوات الكلام عند المخلوق، والعجيب أنهم يستدلون لذلك ببعض ما ذكره السائل، كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {فصلت:11}، فكما أن كلام السماء والأرض، لا يعني أن لها مثل هذه الأدوات، فالله تبارك وتعالى وتقدس، أولى بالغنى عن مثل ذلك.

قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل في رده على الجهمية والزنادقة: أما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف، وفم، وشفتين، ولسان، وأدوات، أليس الله قال للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، تراها أنها قالت بجوف، وفم، وشفتين، ولسان، وأدوات؟! وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79]، أتراها سبحت بجوف، وفم، ولسان، وشفتين؟! والجوارح إذ شهدت على الكفار، فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]، أتراها أنها نطقت بجوف، وفم، ولسان؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله تكلم كيف شاء، من غير أن يقول بجوف، ولا فم، ولا شفتين، ولا لسان. اهـ.

وقال الإمام السجزي في رسالته إلى أهل زبيد، في الرد على من أنكر الحرف والصوت: وهذه القضية توجب أن يكون كلامه حرفًا وصوتًا، وكذلك كلام المحدث، إلا أن كلامه معجز، ولا انتهاء له، وأزلي، وكلام المحدث غير معجز، وهو متناه، وعرض لم يكن في وقت، ولا يكون في وقت، وكلامه سبحانه بلا أداة، ولا آلة، ولا جارحة، وكلام المحدث لا يوجد إلا عن أداة، وآلة، وجارحة في المعتاد، وقول الأشعري: "لما كان سمعه بلا انخراق، وجب أن يكون كلامه بلا حرف، ولا صوت"، مغالطة، وبناؤه لا يقتضي ما قاله، وإنما يقتضي: أن سمعه لما كان بلا انخراق، وجب أن يكون كلامه من غير لسان، وشفتين، وحنك، ولو قال ذلك لاستمر، ولم يقع فيه خلاف، وإنما موَّه وغالط، ويمر ذلك على من قصر علمه. اهـ.

وقال في موضع آخر: وأما الصوت: فقد زعموا أنه لا يخرج إلا من هواء بين جرمين، وذلك لا يجوز وجوده من ذات الله تعالى، والذي قالوه باطل من وجوه: ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سلام الحجر عليه، وعلم تسليم الحصا في يده، وتسبيح الطعام بين يديه، وحنين الجذع عند مفارقته إياه، وما (جاء) لشيء من ذلك هواء منخرق بين جرمين؟ وقد أقر الأشعري: أن السماوات والأرض {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} حقيقة لا مجازًا. اهـ.

وقال الإمام المقدسي في (الاقتصاد في الاعتقاد) في إثبات أن كلام الله بحرف وصوت: وروى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، كجر السلسلة على الصفوان، فيخرون سجدًا". وذكر الحديث. وقول القائل: بأن الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج، باطل ومحال، قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}، وكذلك قال عز وجل إخبارًا عن السماء والأرض أنهما {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، فحصل القول من غير مخارج، ولا أدوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كلمه الذراع المسمومة. وصح أنه سلم عليه الحجر. اهـ.

وقال الدكتور أحمد بن عطية الغامدي في رسالته للدكتوراه (البيهقي وموقفه من الإلهيات) في بيان شبهة من نفى الحرف والصوت: يرى أن إثبات ذلك يقتضي تشبيه الله بخلقه، في أن يكون له مخارج الحروف والأصوات، فيكون كلامه يشبه كلام خلقه؛ لأن الحرف والصوت من صفات كلام المخلوقين. اهـ.

ثم قال: منشأ الخطأ في هذه المسألة هو عدم التفريق والمباينة بين الخالق وصفاته والمخلوق وصفاته، وإلاّ فإن السلف متفقون على التمييز بين صوت الربّ، وصوت العبد، ومتفقون على أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم حروفه ومعانيه، وأنه ينادي عباده بصوته. وليس للبيهقي ومن حذا حذوه في نفي الحرف والصوت سوى الشبهة التي سبق ذكرها.

أما السلف فإنهم استدلوا على مذهبهم القائل بأن الله يتكلم بصوت بحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار…". وأمثاله من الأحاديث ...

وقصارى القول: إن السلف يرون أن الله تعالى يتكلم بصوت يسمع، كما دلت على ذلك الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، وأن صوته لا يشبه أصوات خلقه، كما أن ذاته لا تشبه ذواتهم، وأن سائر كلام الله تعالى ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني.

وفي بيان أن كلام الله تعالى هو مجموع الأمرين، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية موضحًا المذهب الصحيح في ذلك: والصواب الذي عليه سلف الأمة - كالإمام أحمد، والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم أتباع النصوص الثابتة، وإجماع الأمة، وهو: أن القرآن جميعه كلام الله -حروفه، ومعانيه-، ليس شيء من ذلك كلامًا لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسمًا لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحروف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما، وأن الله تعالى يتكلم بصوت، كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القارئ، ولا غيره، وأن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته، علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الربّ يشبه صوت العبد. اهـ.

فهذا هو مذهب السلف الحق، وهو الرأي السديد لاتفاقه مع ما جاء به الوحي الإلهي، الذي يجب أن يكون هو الفيصل عند الاختلاف والحكم عند التنازع، بعيدًا عن الأقيسة الباطلة. اهـ.

وإذا تقرر ذلك؛ عرف أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تعالى، لا يعني مشابهة كلام المخلوق، ولا يعني كذلك الخوض في كيفية اتصاف الله تعالى بصفاته، وإنما هو لبيان معنى كون الله تعالى متكلمًا بما شاء، وقتما شاء سبحانه، مع الجزم بكمال الله المطلق، وأن صفاته لا تماثل صفات المخلوق.

وهنا ننبه على أن صفة الكلام ليست صفة ذاتية محضة، كالحياة، والعلم، والقدرة، بل هي صفة ذاتية فعلية، وراجع في ذلك الفتويين: 35232، 54133. وراجع لمزيد البيان لمسألة الحرف والصوت الفتويين: 307057، 238036.

وأخيرًا: نلفت نظر السائل إلى أن قوله: " والنمل -علميًّا- يتخاطب عن طريق الرائحة والتلامس"، وإن كان يوافق نظريات ومشاهدات علمية، وبحثية سابقة، إلا أن قصر تخاطب النمل على ذلك، ثبت -علميًّا- خطؤه، فقد أثبتت آخر الدراسات العلمية في هذا المجال، أن النمل يتكلم كلامًا حقيقيًّا، بمعنى أنه يصدر ترددات صوتية في المجال المسموع، إلا أن هذه الترددات تحتاج لأجهزة دقيقة من أجل التقاطها وتسجيلها.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني