الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العامي إذا استفتى من ليس بأهل للفتوى

السؤال

إذا قلَّد العامِّي من يرضى دينه وخلقه، ويثق بعلمه، ولكن لم يكُن هذا الشَّخص الَّذي يُقَلِّده في واقع الأمر إلَّا جاهلًا تَصدَّر للفتوى، والقول على الله بغير الحقِّ، فهل العامِّي آثمٌ بذلك، مع اتِّباعه المنهج المطلوب منه بتقليده للثِّقة -حسب اعتقاده-؟
فنحن نرى في زماننا من تصدَّروا للفتوى من الجهلاء، والسُّفهاء ممَّن يُفَرِّطون في أمور دينهم، ويرضون بالدَّنِيَّة في الأمر، أو يُشَدِّدون فيه، فيستبيحون القتل، والتكفير، ويتَّخذونه منهجًا لهم، فإذا قلَّدهم أحد العامَّة، ففرَّط في دِينه؛ لاعتقاده صحَّة قول من يقلِّده، وثقته به، أو استباح القتل والتَّكفير على كلِّ حالٍ، أخذًا بقول من يظنُّه عالمًا، فهل هم معذورون بذلك، ولا لوم عليهم؟
وأنا هنا أريد توضيح أنِّني لا أنكر على المخالف إذا كان للعلماء أكثر من رأي في المسألة، ولم يوصف القول بكونه شاذًّا، حتَّى لا تظنُّوا أنِّني ربَّما أتَّهم أحدًا بالتَّفريط، أو الإفراط ظلمًا وبهتانًا، أو لكوني غير مُقِرٍّ بالخلاف، أو غير ذلك من الأسباب.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذا الموضوع ينبغي التفصيل فيه، بحيث يُفرَّق بين أنواع المسائل من حيث الوضوح والغموض، وقرب المأخذ وبُعْده، ومن حيث ما يترتب على كل مسألة من آثار، فليست مسألة تُستحلُّ بها الدماء، وتُنتهَك بها الأعراض، كغيرها من المسائل في التحري والتثبت، فحرمة الدماء، والأعراض، والأموال مما هو معلوم بالضرورة، فأمرها أخطر وأعظم من أن يستفتى فيه أيّ أحد، أو يفتي فيها أيّ أحد، فلا بد فيها من رأي جماعة الراسخين في العلم الذين تشهد لهم الأمة بالعلم، والورع، ورجاحة العقل، والنصح للأمة، والسلامة من الهوى والزيغ.

وعلى وجه الإجمال؛ فإن العامي الذي يجهل وجه الحجة، ولا يدري شيئًا عن موارد الأدلة، وكيفية الاستدلال، إذا بذل وسعه في طلب الحق، والسؤال عن المؤهلين للفتوى في كل مسألة بحسبها، فأخذ عنهم، دون تعصب أعمى، ولا اتباع للهوى، أو للرأي المجرد، بل لظنه أن ما أُفتي به هو الحق الموافق لمراد الشرع، فإنه بذلك معذور؛ لأنه فعل ما في وسعه مما أمر به.

وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله بابًا عن فساد التقليد، ونفيه، والفرق بينه وبين الاتباع، ثم قال: وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها؛ لأنها لا تتبين موقع الحجة، ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك؛ لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة، والله أعلم، ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {النحل:43}. اهـ.

وأطال في ذلك، ثم قال: أما من قلّد فيما ينزل به من أحكام الشريعة عالمًا يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به، فمعذور؛ لأنه قد أتى بما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهل؛ لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة؛ لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. اهـ.

ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أفتي بغير علم، وفي رواية: من أفتي بفتيا غير ثبت، كان إثمه على من أفتاه. رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وحسنه الألباني.

قال القاري في مرقاة المفاتيح: يعني: كل جاهل سأل عالمًا عن مسألة، فأفتاه العالم بجواب باطل، فعمل السائل بها، ولم يعلم بطلانه، فإثمه على المفتي إن قصّر في اجتهاده. اهـ.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: المعنى: من أفتاه مفتٍ عن غير ثبتٍ من الكتاب، والسنة، والاستدلال، كان إثمه على من أفتاه بغير الصواب، لا على المستفتي المقلد. اهـ.

وانظر الفتوى: 138799.

وقد سبق لنا التنبيه على أن محل كون الإثم على المفتي دون المستفتي -السائل- هو فيما إذا لم يتبين الحكم الشرعي للمستفتي -السائل- وراجع في ذلك الفتوى: 16179.

وراجع لمزيد الفائدة الفتويين التاليتين: 166799، 242329.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني