الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم من زال بغض المعصية من قلبه واتخذها عادة

السؤال

قرأت أنه إذا زال بغض المعصية من القلب وعدم الرجاء من التخلص منها، فإن هذا يؤدي للكفر، فهل هذا محل إجماع؟ لأن الكثير من الناس قد يقع في المعاصي وهو يعلم أنها حرام، لكنه قد اتخذها عادة، ولم يعد يرجو التخلص منها، وربما زال بغض المعصية من قلبه.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فينبغي أن يعلم أن العاصي كما أنه تغلب شهوته فيحب معصية من المعاصي، فإنه أيضا قد يكره هذه المعصية باعتقاده أن الدين حرمها، وهو يحب دينه ويكره ما خالفه، ولو فرض من أحد العصاة عدم كراهته للمعصية التي يرتكبها ولو بهذا الاعتبار، فإنه لا يكون كافرا منافقا إذا كان يحب دينه حبا مجملا، بل يكون ناقص الإيمان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالمؤمن لابد أن يحب الحسنات، ولابد أن يبغض السيئات، ولابد أن يسره فعل الحسنة، ويسوؤه فعل السيئة، ومتى قدر أن في بعض الأمور ليس كذلك كان ناقص الإيمان، والمؤمن قد تصدر منه السيئة، فيتوب منها أو يأتي بحسنات تمحوها، أو يبتلى ببلاء يكفرها عنه، ولكن لابد أن يكون كارها لها، فإن الله أخبر أنه حبب إلى المؤمنين الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فمن لم يكره الثلاثة لم يكن منهم، ولكن محمد بن نصر يقول: الفاسق يكرهها تدينان فيقال: إن أريد بذلك أنه يعتقد أن دينه حرمها، وهو يحب دينه وهذه من جملته، فهو يكرهها، وإن كان يحب دينه مجملا وليس في قلبه كراهة لها، كان قد عدم من الإيمان بقدر ذلك، كما في الحديث الصحيح: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ـ وفي الحديث الآخر الذي في الصحيح أيضا صحيح مسلم: فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل ـ فعلم أن القلب إذا لم يكن فيه كراهة ما يكرهه الله، لم يكن فيه من الإيمان الذي يستحق به الثواب، وقوله: من الإيمان ـ أي: من هذا الإيمان وهو الإيمان المطلق، أي: ليس وراء هذه الثلاث ما هو من الإيمان ولا قدر حبة خردل ـ والمعنى: هذا آخر حدود الإيمان، ما بقي بعد هذا من الإيمان شيء، ليس مراده أنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء، بل لفظ الحديث إنما يدل على المعنى الأول. انتهى.

وأما إذا لم يبغض شيئا مما حرمه الله من المنكرات من الكفر والفسوق والعصيان، فإنه يكون كافرا في هذه الحال، قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه المنتقى من فرائد الفوائد ما نصه: مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ـ أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، لا أن من لم ينكر ذلك بقلبه، لم يكن معه من الإيمان حبة خردل، قلت ـ أي الشيخ ابن عثيمين: ومن رضي بالذنب، واطمأن إليه، فهو كفاعله، لا سيما مع فعل ما يوصل إليه وعجز، وقد قال الشيخ رحمه الله: إن من ترك إنكار كل منكر بقلبه، فهو كافر. انتهى.

فعلم مما سبق أن ما ذكره السائل ـ مما قرأه ـ يحمل على من انتفى من قلبه أصل بغض المعاصي مطلقا، أو انتفى من قلبه أصل رجاء رحمة الله، فإن لأعمال القلوب أصولا يجب أن تكون في قلب كل مسلم، فالإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وله أصل وكمال، فإذا انتفى أصل الإيمان من أقواله أو أعماله لم يكن صاحبه مسلما صحيح الإيمان.
وأما إن كان مقصود السائل بقوله:... وعدم الرجاء من التخلص منها، فإن هذا يؤدي للكفر... إلخ، إن كان قصده أن الذنب تحكم من صاحبه فلم يعد يرجو زواله والتوبة منه، فهذا لا يؤدي إلى الكفر، وإنما هي وساوس شيطان يريد بها تثبيط العبد عن التوبة من الذنب والتخلص منه، وقد يؤدي إلى القنوط من رحمة الله تعالى؛ وذلك أخطر من ارتكاب الذنب نفسه، والواجب على العبد مجاهدة نفسه بترك الذنب والاستعانة بالله في ذلك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني