الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم الفرح بما يصيب الناس من مصائب

السؤال

أريد منكم توضيحًا لمذاهب العلماء في الفرح بمصائب المسلم الظالم، والكافر المحارب، أو غير المحارب، والفرح بموتهم، وإظهار ذلك الفرح بين العامَّة، وهل أجمعوا على تحريم الشماتة والفرح بمصائب المسلم غير الظَّالم؟ أرجو تفصيل القول في المسألة.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فحكم الفرح تابع لسببه، فمن فرح بسبب حصول ما يحبه الله، كان فرحه محمودًا، ومن فرح بما يغضب الله، كان فرحه مذمومًا، ومن فرح بما يؤول إلى أحد هذين النوعين ويواليهما، كان تابعًا له في الحكم؛ ولهذا يختلف حكم الفرح بما يصيب الكفرة والظلمة من المصائب بحسب سببه والحامل عليه وما يؤول إليه، قال العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام: لو قتِل عدو الإنسان ظلمًا وتعديًا، فسَرَّه قتلُه، وفَرح به، هل يكون ذلك سرورًا بمعصية الله أم لا؟

قلت: إن فرح بكونه عُصِي الله فيه، فبئس الفرح فرحه، وإن فرح بكونه تخلص من شره، وخلص الناس من ظلمه وغشمه، ولم يفرح بمعصية الله بقتله، فلا بأس بذلك؛ لاختلاف سببي الفرح.

فإن قال: لا أدري بأي الأمرين كان فرحي؟

قلنا: لا إثم عليك؛ لأن الظاهر من حال الإنسان أنه يفرح بمصاب عدوه لأجل الاستراحة منه، والشماتة به، لا لأجل المعصية؛ ولذلك يتحقق فرحه، وإن كانت المصيبة سماوية. اهـ.

ونقل ذلك الزركشي في المنثور في القواعد الفقهية وأقره.

وعلى ذلك؛ فإذا فرح المسلم بما يصيب الظلمة والكفرة من المصائب؛ لكون ذلك يقلل من فسادهم وشرهم، أو يكف شيئًا من بأسهم، أو يكون عبرة وذكرى لهم ولغيرهم، أو غير ذلك مما يوافق مراد الشرع، ولا يخالف الفطرة، ففرحه هذا محمود، وقد مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال: مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب. رواه البخاري ومسلم.

قال ابن حجر في فتح الباري: قال الداودي: أما استراحة العباد؛ فلما يأتي به من المنكر، فإن أنكروا عليه آذاهم، وإن تركوه أثموا، واستراحة البلاد مما يأتي به من المعاصي، فإن ذلك مما يحصل به الجدب فيقتضي هلاك الحرث والنسل.... ويحتمل أن يكون المراد براحة العباد منه لما يقع لهم من ظلمه، وراحة الأرض منه، لما يقع عليها من غصبها ومنعها من حقها وصرفه في غير وجهه، وراحة الدواب مما لا يجوز من إتعابها. اهـ.

وقال الشعراوي في تفسيره: الذي يشذ عن مراد الله لابُدَّ أن يفسد به المجتمع، كما نرى المجتمعات تشقى بكفر الكافر، وبعصيان العاصي... ولو أن الناس عملوا بشرع الله ما حدث فساد في الكون ولا خَلَلٌ في حياتهم أبدا، لذلك نفرح حينما ينتقم الله من أهل الكفر ومن أهل المعصية، ونقول: الحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد. اهـ.

وسئل الشيخ ابن باز عن فرح المسلم إذا أصيب الكفار بمصيبة؟ فقال: المصيبة التي تنفع المسلمين يفرح بها، إذا كان فيها نفع للمسلمين يفرح بها: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ـ إذا كان شيء ينفع المسلمين: انهزم الجيش، هداهم الله للإسلام، يفرح. اهـ.

فهذا هو السبب الشرعي للفرح، وهو ما يترتب على ذلك من خير أو نفع لأهل الحق، أو للكفار أنفسهم بالاتعاظ والرجوع إلى الله تعالى، وهذا لا يتعارض مع الحزن عليهم من جهة أخرى، كاستحقاق الخلود في النار بموتهم على الكفر، أو الرقة الجبلية والرحمة الفطرية بالإنسانية من حيث هي، وقد كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الذمة! فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة، فقام فقيل له: إنها جنازة يهودي! فقال: أليست نفسا؟. رواه البخاري ومسلم.

قال الإثيوبي في ذخيرة العقبى: يعني أن القيام شرع لكونها نفسا، لا لكونها مؤمنة، ومعنى القيام لكونها نفسا أنها حل بها الموت الذي هو أمر عظيم، وخطر جسيم على الإنسان، فينبغي له أن يقابله بالفزع والرهبة، والخضوع والاستكانة، لا بالغفلة والذهول، والتكبر والأنفة، وهذا المعنى لا يخص نفس المؤمن، بل يعم كل نفس حل بها الموت. اهـ.

ونظير ذلك الرحمة التي يجدها المؤمن في قلبه لمن يقام عليه حد من حدود الله تعالى عقوبة على جرمه، فإنها لا تتعارض مع قوله عز وجل: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ {النور: 2}.

فإن الرأفة المنهي عنها هي الرأفة التي تحمل على ترك إقامة الحد أو تخفيفه بعد ثبوته، قال ابن كثير: قوله: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ـ أي: في حكم الله، لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية ألا تكون حاصلة على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد، فلا يجوز ذلك. اهـ.

ولذلك قال البغوي: الرأفة معنى في القلب، لا ينهى عنه، لأنه لا يكون باختيار الإنسان. اهـ.

والمقصود أن المؤمن عندما يفرح بما يحل بالكافر أو الظالم من المصائب، ينبغي أن يكون فرحه لما في ذلك من منافع، وما يترتب عليه من مصالح عامة أو خاصة بأهل الإيمان، لا لمجرد المصيبة، ومع ذلك فلا يتعارض هذا الفرح مع الأسى الذي يجده المؤمن لرؤية الكوارث التي تصيب الإنسانية، ويتأكد هذا في حق الكفار المسالمين، فضلا عن المسلمين الذي يصابون في مثل هذه الكوارث.
وأما إذا حصل ذلك لكفار يحاربون الإسلام وأهله، ويعاندون الحق ويسعون في الأرض فسادا، فالفرح هنا أتم وأكمل، بل هذا مما يُطلب من الله ويُلَح عليه في الدعاء به، وهو من جملة ما ذكره القرآن عن دعاء أنبياء الله تعالى ورسله على أقوامهم المكذبين لهم، المعاندين للحق، كما قال نوح عليه السلام: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً {نوح: 26ـ 27}.

وكما قال موسى عليه السلام: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ {يونس:88}.

قال الحليمي في شعب الإيمان: تمنى موسى صلوات الله عليه بعد أن أجهده فرعون، ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فقال: ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ـ فلم ينكر الله تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه. اهـ.

وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بحلول الشدائد والمصائب على المكذبين من قومه، فعن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشا إلى الإسلام فأبطئوا عليه فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الميتة والجلود، حتى جعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخانا من الجوع. رواه البخاري ومسلم.
وأما من فيهم ممن لا يستحق هذه العقوبة، كالمؤمنين والأطفال والمجانين والبهائم، فهذا مما لا يفرح بنزول المصيبة به في خصوصه، ولكن سنة الله تعالى الجارية في حلول الكوارث والمصائب العامة أن تصيب الجميع، ثم يبعث كل على نيته، ويعامل في الآخرة بما يستحقه، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الدعاء على الكفار المعاندين بحلول المصائب، وبين الدعاء للمستضعفين بالنجاة، فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف. رواه البخاري ومسلم.

قال ابن قُرْقُول في مطالع الأنوار: اللهم اشدد وطأتك على مضر ـ أي: عقوبتك وأخذك، قال الخطابي: الوطأة هنا: العقوبة والمشقة، وأراد بها ضيق المعيشة. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: أي خذهم بشدة، وأصلها من الوطء بالقدم، والمراد الإهلاك، لأن من يطأ على الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه. اهـ.
ومثل هذا يصيب الجميع في الغالب، كما سبقت الإشارة إليه، قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر... فتتابعت عليهم الجدوبة والقحط، سبع سنين حتى أكلوا القد والعظام والعلهز، فنال ذلك الجدب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبدعائه عوقبوا، حتى شد وشد المسلمون على بطونهم الحجارة من الجوع، وقد رأينا بعيوننا ما أغنى عن الأخبار، فكم من بلد فيه الصالحون والأبرار والأطفال والصغار، أصابته الرجفة، فهلك به البر والفاجر، والمسيء والمحسن، والطفل والكبير.. وهذا شيء يعرفه كل من عرف الله عز وجل من أهل الديانات، وإن اختلفوا. اهـ.

وأما المسلم غير الظالم فلا وجه للشماتة أو الفرح بما يصيبه من مصائب، وقد ذكر القرآن ذلك في صفات المنافقين فقال تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا {آل عمران: 120}.

وقال سبحانه: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ {التوبة: 50}.

وجاء في السنة ما يؤكد ذلك ويبين أنه دليل على ضعف الإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. متفق عليه.

قال الحافظ في فتح الباري: لا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة، قال الكرماني: ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره، لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء. اهـ.

وقال القرطبي في تفسيره: الشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا، وهي محرمة منهي عنها. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني