الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التأويل الصحيح لحديث: لولا حواء لم تخن أنثى زوجها

السؤال

ما معنى حديث: لولا بني إسرائيل لم يخنز اللحم...؟ إلى آخره، وقد سمعت للشيخ مصطفى العدوي تفسيرا ولولا حواء، قال هناك قول يقول إن ما بعد حواء قد حذف، ويمكن أن تكون لولا حواء ناقصة عقل ودين لم تخن امرأة زوجها، فهل يمكن الأخذ بهذا القول؟.
وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فتفسير حديث خيانة حواء بنقصان العقل والدين، على معنى: لولا حواء خلقت ناقصة العقل والدين، لم تخن أنثى زوجها ـ لم نجد من ذكره من أهل العلم الأقدمين، وهذا يكفي في رده أو التوقف فيه، ولو كان هذا هو المراد لم يكن في الحديث ذم لها، لأنه لا دخل لها في أصل خلقتها ونقصان عقلها، كما لا تذم على ترك الصلاة في الحيض، أو على أن شهادتها تعدل نصف شهادة الرجل! وقد سبق لنا نقل ما ذكره الشراح في بيان معنى هذا الحديث، فراجعي الفتويين رقم: 38539، ورقم: 50860.

وما نقلناه هناك هو الذي عليه عامة الشراح، وعماده على أن حواء كانت أحد أسباب أكل آدم ـ عليه السلام ـ من الشجرة، فهي التي بدأت الأكل وشجعت آدم عليه، قال ابن عطية في المحرر الوجيز: وسارعت إلى ذلك حواء وكانت معه في النهي، فلما رآها آدم قد أكلت أكل. اهـ.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية: وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم، وهي التي حدته على أكلها، والله أعلم، وعليه يحمل الحديث. اهـ.

وقال السعدي في مجموع الفوائد واقتناص الأوابد: أحسنُ ما يحمل عليه الحديث أن حواء ـ عليها السلام ـ قيل: إنها حسَّنت له الأكل من الشجرة حين وسوس لهما الشيطان، فاجتمع على آدم تغرير الشيطان وتسويله، وتحسين زوجته له، فوقع الأكل، ولكن تاب الله عليهما حين تابا وندما... ومضمون ذلك أن الواجب على المرأة أن يكون زوجها عندها محترماً احتراماً حقيقيًّا، وتبني أمرها معه على الصدق والصراحة وعدم الخيانة، ولكن وقعت حواء، فوقعت بناتها. اهـ.

وجاء في تفسير المنار: نسي آدم عهد ربه، ولم يكن له من العزم ما يصرفه عن متابعة امرأته، ويعتصم به من تأثير شيطانه... بناء على أنها هي التي زينت له الأكل من الشجرة، والمراد أن المرأة فطرت على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له. اهـ.

وبرغم أن ما سبق هو قول أكثر أهل العلم، إلا أنه لا دليل عليه من ظاهر الكتاب والسنة، بل ظاهر القرآن يدل على أن آدم وحواء قد آكلا من الشجرة معا، لا أن حواء سبقته إلى ذلك، أو أنها هي التي زينت له الأكل منها، وأن ذلك كان بتلبيس إبليس وتزينه ووسوسته لهما جميعا، كما قال تعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ {الأعراف: 19ـ 22}.

بل لا يبعد أن يقال: إن ظاهر القرآن يدل على العكس، وهو أن آدم هو السابق إلى الأكل، وأن حواء اقتدت به في ذلك، كما في قوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {طه: 120 ـ122}.

قال العلامة ابن عاشور في التحرير والتنوير: أي فعمل آدم بوسوسة الشيطان فأكل من الشجرة، وأكلت حواء معه، واقتصار الشيطان على التسويل لآدم، وهو يريد أن يأكل آدم وحواء، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة... وقوله: وعصى آدم ربه ـ عطف على: فأكلا منها ـ أي أكلا معا، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة، وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه، فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا {التحريم: 6}. اهـ.

ولذلك، فالأقرب إلى الصواب في معنى هذا الحديث، هو ما ذكره الوزير الفاضل ابن هبيرة في كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح، فقال: قيل: إن خيانتها لزوجها، أنها لما رأت آدم قد عزم على الأكل من الشجرة تركت نصحه في النهي له، لأن ذلك كان ترك النصح له خيانة، فعلى هذا، كل من رأى أخاه المؤمن على سبيل ذلك فترك نصحه بالنهي عن ذلك النهي فقد خانه، ولا يخرج هذا من تسمية الخائنين الذين جزم الله سبحانه منهم: إن الله لا يحب الخائنين ـ اللهم إلا أن يسكت تقية، فذلك له حكم تعلق به. اهـ.
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: أما خيانة حواء زوجها: فإنها كانت في ترك النصيحة في أمر الشجرة لا في غير ذلك، والمراد أن بني إسرائيل لما نهوا أن يدخروا فخالفوا فسد اللحم، واطردت الحال فيه عند كل مدخر، ولما خانت حواء زوجها اطردت الحال في بناتها. اهـ.

وقال ابن الأثير في جامع الأصول: خيانة حواء آدم: هي ترك النصيحة له في أمر الشجرة، لا في غيرها. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني