الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كره الدنيا بين المدح والذم

السؤال

عمري 28 عاما، ومنذ 4 أعوام أو أكثر ليس عندي إقبال على الحياة، مع أنني ـ والحمد لله ـ أشتغل في وظيفة جيدة... لكنني أكره الحياة وأكره ما فيها، ونظرتي لها أنها لا تساوي شيئا، وأحيانا أتمنى الموت وأن يكون ربي راض عني، ولا أريد أن أبقى فيها مع أنني مدرك تماما أنني لا بد أن أشتغل وأخلص في عملي.. فلماذا كل هذا؟ فأنا أكره هذه الدنيا والعيش فيها، وما الحكم الشرعي في هذا؟ وهل هذا جيد ومطلوب أم مكروه؟.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمن السنة أن يستعيذ المرء في كل صلاة من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة الدنيا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال. رواه مسلم.

وكان سعد بن أبي وقاص يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المُكَتِّبُ الغلمان، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن في دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر. رواه البخاري والنسائي.

قال ابن الجوزي في كشف المشكل: أما فتن المحيا فأكثر من أن تحصر، وأما فتنة الممات فتحتمل شيئين:

أحدهما: حالة الموت، فإن الشيطان يفتن الآدمي حينئذ...

والثاني: أنها فتنة القبر بعد الموت. اهـ.

وراجع في معنى فتنة المحيا والممات الفتوى رقم: 52590.

والمقصود أن للحياة فتنة، وللدنيا فتنة، والنجاة منها من فضل الله ونعمه على العبد، وذلك يكون بالتحرز من زهرتها، والزهد فيها، والتورع عن شبهاتها، وهذا لا يتنافى مع حرص المرء على ما ينفعه منها، فإن المذموم من ذلك هو التلهي بها عن الآخرة، والتشاغل بها عن إصلاح أمر الدين.

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: قال الحسن البصري: ليس من حبك للدنيا طلبك ما يصلحك فيها، ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها، ومن أحب الدنيا وسرته، ذهب خوف الآخرة من قلبه ـ وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه ـ وقال يحيى بن معاذ الرازي: كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت، أكتسب بها حياة، أدرك بها طاعة، أنال بها الآخرة ـ وسئل أبو صفوان الرعيني ـ وكان من العارفين: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن التي ينبغي للعاقل أن يجتنبها؟ فقال: كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا، فهو مذموم، وكل ما أصبت فيها تريد به الآخرة، فليس منها ـ وقال الحسن: نعمت الدار كانت الدنيا للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلا، وأخذ زاده منها إلى الجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه، وكان زاده منها إلى النار. اهـ.

وعلى ذلك؛ فكُرْه السائل للدنيا إن كان يعني بها الزهد في متاعها الفاني، والإقبال والحرص على ما يصلح أمر دينه، وينفعه في آخرته، فهو محمود، وأما إن كان خلا عن ذلك، فوقف بصاحبه وعطله عما فيه صلاح معاشه دون أن يزود لمعاده، فليس بمحمود.

هذا.. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنا فلعله يزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب. رواه البخاري.

قال ابن الجوزي في كشف المشكل: الاستعتاب: الرجوع عن الإساءة إلى الإحسان. اهـ.

وراجع في ذلك الفتوى رقم: 31781.

وراجع في التوفيق بين الشوق إلى لقاء الله، وعدم تمني الموت، الفتوى رقم: 8137.

ونوصي السائل بقراءة كتاب: كيف تتخلص من القلق ـ للدكتور محمد الودعان.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني