الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تعارض بين الزهد وطلب كسب المال للغنى

السؤال

الزهد هو: ترك ما لا ينفع في الآخرة، فكيف يكون من يسعى في الدنيا ويجعلها أمامه، لكي يصبح غنيا زاهدا؟ وقد قلتم: وكان بعض السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم يملكون الأموال الطائلة، ولكنهم كانوا أزهد الناس في الدنيا وأكثر إنفاقا لها في السر والعلانية، فهذا هو الزهد الحقيقي، ولذلك فلا مانع شرعا أن يسعى المسلم لكسب المال بالوجوه الشرعية، لأن ذلك لا ينافي الزهد ـ أليس الزهد هو الاقتصار على الكفاف في الدنيا؟ فكيف يكون من يجمع الأموال الطائلة ولا يتصدق إلا بجزء يسير منها زاهدا؟ ثم إن الجمع بين الثروة والزهد متناقض، والدليل: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ {1} يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خلقوا له من عبادته وحده لا شريك له، ومعرفته، والإنابة إليه، وتقديم محبته على كل شيء: أَلْهَاكُمُ ـ عن ذلك المذكور: التَّكَاثُرُ ـ ولم يذكر المتكاثر به، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، من التكاثر في الأموال، والأولاد، والأنصار، والجنود، والخدم، والجاه، وغير ذلك مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر، وليس المقصود به الإخلاص لله تعالى ـ تفسير السعدي، وعن عبد الله بن الشخير بكسر الشين والخاء المشددة المعجمتين ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ـ قال: يقول ابن آدم مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ رواه مسلم، أرجو توضيح خصائص ومميزات الزهد.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن سعي الإنسان في جمع المال من طريق الحلال لكي يصبح غنيا لا ينافي الزهد، ولا يعتبر من الاشتغال بما لا ينفع في الآخرة إذا تحرى الحلال في كسبه، وأنفق ما حصله في طاعة الله تعالى، فلا حرج على المسلم في السعي لأن يكون غنيا، فمن أدعية نبينا صلى الله عليه وسلم المأثورة: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. رواه مسلم وغيره.

ومنها: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر.. الحديث رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح للرجل الصالح. رواه مسلم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمعتدة: جدي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفاً. رواه مسلم.

ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنس، وكان في آخر دعائه: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه. رواه مسلم.

وقال لسعد: إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة. رواه البخاري.

وفي الحديث: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد آتاه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل... رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ومن كانت الأموال الكثيرة في يده ولم يتعلق قلبه بها فهو زاهد، كما يقول شيخ الإسلام: إذا سلم القلب من الهلع، واليد من العُدوان كان صاحبه محمودًا، وإن كان معه مال عظيم، بل قد يكون مع هذا زاهدًا أزهد من فقير هلوع. اهـ.

وقال ابن رجب لما تكلم عن انقسام بني آدمَ في الدنيا: والمقتصدُ منهم: أخذَ الدنيا منْ وجوهِهَا المباحةِ، وأدَّى واجباتِهَا، وأمسَكَ لنفسِهِ الزَّائدَ على الواجبِ يتوسَّعُ به في التمتع بشهواتِ الدنيا، وهؤلاءِ قد اختُلفَ في دخولِهِم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكرُهُ، ولا عقابَ عليهم في ذلكَ، إلا أنه ينقصُ من درجاتِهِم من الآخرةِ بقدرِ توسُّعهم في الدنيا, قال ابنُ عمرَ: لا يصيبُ عبدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقصَ من درجاتِهِ عندَ اللهِ، وإن كان عليه كريمًا ـ خرَّجه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيدٍ. انتهى.

وقال ابن الجوزي بعد أن سرد جملة من الآيات والأحاديث في فضل المال وشرفه: هذه الأحاديث مخرجة في الصحاح وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته.. وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظر في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته وادخر لحوادث زمانه وزمانهم وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات. اهـ

واعلم أنه قد اختلفت عبارات أهل العلم في كلامهم عن الزهد، فقد قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: ترك ما لا ينفع في الآخرة. اهـ

وقال بعضهم: حقيقة الزهد هي خلو القلب من التعلق بما لا ينفع في الآخرة وهو على مراتب:

الأولى: ترك الحرام والشبهة.

الثانية: ترك الفضول من الحلال.

الثالثة: ترك ما يشغل عن الله تعالى.

وقال بعضهم الزهد: إخراج الدنيا من القلب وجعلها في اليد استعدادا لبذلها وإنفاقها فيما يرضي الله تعالى، وقد يكون الإنسان زاهدا وهو يملك الأموال الطائلة، وكذلك العكس، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المستدرك على الفتاوى الكبرى: إذا سلم فيه القلب من الهلع، واليد من العدوان، كان صاحبه محمودا، وإن كان معه مال عظيم، بل قد يكون مع هذا زاهدا أزهد من فقير هلوع. اهـ

وقد أسهب ابن مفلح في الآداب، ونقل كلام أهل العلم فيه وفي وأنواعه فقال: قال أبو الخطاب سئل أحمد وأنا شاهد: ما الزهد في الدنيا؟ قال قصر الأمل والإياس مما في أيدي الناس.... وقال الشيخ تقي الدين إذا سلم فيه القلب من الهلع واليد من العدوان كان صاحبه محمودا وإن كان معه مال عظيم، بل قد يكون مع هذا زاهدا أزهد من فقير هلوع كما قيل للإمام أحمد.... وعن سفيان أنه قيل له يكون الرجل زاهدا وله مال؟ قال نعم, إن ابتلي صبر, وإن أعطي شكر، وقال سفيان إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة وبالمغرب صاحب سنة فابعث إليهما بالسلام وادع الله لهما فما أقل أهل السنة والجماعة، قال القاضي أبو يعلى وذكر أبو القاسم القشيري في كتاب الرسالة إلى الصوفية وقال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: ترك ما يشغل العبد عن الله عز وجل وهو زهد العارفين، قال: وسمعت محمد بن الحسين يقول سمعت علي بن عمر الحافظ سمعت أبا سهل بن زياد يقول: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سئل أبي ما الفتوة؟ فقال ترك ما تهوى لما تخشى..... وروي عن الإمام أحمد أنه سئل عن الزهد قال قصر الأمل، ورواه في موضع آخر عن سفيان عن الزهري أنه قال ذلك وقال عبد الله بن أحمد حدثني أبي سمعت سفيان يقول ما ازداد رجل علما فازداد من الدنيا قربا إلا ازداد من الله بعدا وروى الخلال عن الفضل قال علامة الزهد في الناس إذا لم يحب ثناء الناس عليه ولم يبال بمذمتهم وإن قدرت أن لا تعرف فافعل وما عليك ألا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله عز وجل, ومن أحب أن يذكر لم يذكر، وقال إسحاق بن بنان قال أحمد: سمعته يقول يعني بشرا قال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله عبد أحب الشهرة، وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول من بلي بالشهرة لم يأمن أن يفتنوه، لأني لا أفكر في بدء أمري, طلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة، قال ابن عقيل في الفنون هجران الدنيا في عصرنا هذا ليس من الزهد في شيء, إنما المنقطع أنف من الذل فإن مخالطة القدري والتخلي عنهم تراعة ومن طلق عجوزا مناقرة فلا عجب وقال ما قطع عن الله وحمل النفس على محارم الله فهو الدنيا المذمومة وإن كان إملاقا وفقرا، وما أوصل إلى طاعة الله فذاك ليس بالدنيا المذمومة وإن كان إكثارا، وقال الواجب شكرها من حيث هي نعمة الله وطريق إلى الآخرة وذريعة إلى طاعة الله وكل خير يعود بالإفراط فيه شر, كالسخاء يعود إسرافا, والتواضع يعود ذلا, والشجاعة تعود تهورا.... اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني