الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجب على الطبيب والطبيبة القيام بأعمال التمريض التي فيها كشف للعورة أو ملامسة عند اختلاف الجنس بين الممرض والمريض

السؤال

من المعروف أن عورة الرجل: من السرة للركبة. فهل يجب على الممرضة أو الطبيبة التى تقيس الضغط أو السكر، أو تسحب الدم، أو تحقن رَجُلا في وريده (ذراعه) أن تلبسَ قفازًا عند ذلك؟ وكذلك إذا اضطرت لحقن رجل في العضل: عند عدم وجود طبيب أو ممرض، وكانت حالة المريض حرجة لا تحتمل التأجيل: أن تلبس قفازا؟ وهل في المقابل إذا كان الطبيب أو الممرض يعالج امرأة عند عدم وجود طبيبة أو ممرضة أن يلبس قفازًا لئلا يلمسَ المرأة مباشرة؟
وهل يأثم الطبيب الرجل إذا لم يقم بحقن الرجال وقياس الضغط والسكر وسحب الدم ونحوه عند عدم وجود ممرضين رجال، ووجود ممرضات نساء؛ لأن هذا اختصاص الممرض، وليس الطبيب؟
وهل في المقابل تأثم الطبيبة من القيام بنفس الأمر للنساء عند وجود ممرضين رجال، وعدم وجود ممرضات نساء؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فقد سبق لنا أن بينا في عدة فتاوى ضوابط علاج الرجل للمرأة، وعلاج المرأة للرجل، ومنها أنه يتعين لبس القفازين وعدم المس المباشر، كما في الفتوى رقم: 195741 والفتوى رقم: 110740 .

وأما حكم حقن الطبيب للرجال، وسحب الدم منهم، وإجراء القياسات اللازمة لهم، ونحو ذلك من أعمال التمريض، عند عدم وجود ممرضين رجال، فالأصل أن هذا لا يلزمه، باعتبار عرف العمل الطبي، والعادة الجارية في هذا المجال، وما يوافق ذلك من بنود العقود المنظمة للعمل، فليست هذه الأعمال مما يتعاقد الطبيب على فعله. وأما كونه يحسنها أو يستطيع القيام بها، فلا فرق بينه وبين غيره من الرجال الذين يمكنهم القيام بذلك من الغرباء عن المهنة، والمرضى، والمرافقين، ونحوهم، إن وجدوا في مكان الكشف الطبي. بمعنى أن القيام بذلك إن كان لا يجب على من يستطيع القيام بذلك من الرجال غير الطبيب إن حضروا الموقف، فإنه كذلك لا يجب على الطبيب لا بمقتضى العقد، ولا بما جرى به العرف.
ويبقى النظر بعد ذلك في أمر الديانة، وهل يطالب بذلك الطبيب أو غيره من الرجال الحاضرين الذين يمكنهم القيام به؛ من باب فعل الخير، وسد الحاجة، ومنع منكر المباشرة والمخالطة المنهي عنها بين الأجانب من الرجال والنساء؟

وجواب ذلك يحتاج إلى تفصيل، فبعض الأحوال يمكن ترجيح الحكم فيها، وبعضها محل نظر واحتمال، ومن هذا الثاني: أن يكون الطبيب خاليا غير مشغول، وليس في قيامه بذلك مشقة كبيرة، ولا ضرر عليه ولا على غيره. فعندئذ قد يحكم بالوجوب؛ درءا لمفسدة اطلاع المرأة على عورة الرجل. والأمر أظهر في حال الطبيبة؛ لأن كشف عورة المرأة على الرجل أشد من كشف عورة الرجل على المرأة.
ومن الأول - وهو ما يمكن الترجيح في حكمه – أن يكون الطبيب مشغولا بعمله الطبي، فيتضرر بتركه هو أو مريضه، أو يشق ذلك عليه مشقة كبيرة، فلا يجب عليه ترك عمله للقيام بذلك، وهذا قريب من حال رجال المسلمين إذا انشغلوا بغزو ونحوه، فإن النساء عندئذ هن من يقمن بمداواة المرضى، كما يدل عليه جملة من أحاديث وأحداث السيرة النبوية، وقد عقد البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه بابا في (مداواة النساء الجرحى في الغزو) وأسند فيه أثر الربيع بنت معوذ: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى".
قال ابن حجر في الفتح: "فيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة. قال ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم ثم بالمتجالات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس ... اهـ.
وعقد البخاري أيضا في كتاب الطب من صحيحه باب: (هل يداوي الرجل المرأة أو المرأة الرجل)؟ وأسند فيه الأثر السابق بلفظ: "كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة".
قال ابن حجر: يؤخذ حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس، وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب، أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجا لها أو محرما، وأما حكم المسألة فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك. اهـ.
وروى البخاري في صحيحه عن حفصة بنت سيرين قالت: كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فحدثت أن أختها كانت تحت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وكانت أختي معه في ست غزوات، قالت: كنا نداوي الكلمى، ونقوم على المرضى.. الحديث.
قال ابن بطال: فيه: غزو النساء المتجالات ومداواتهن الجرحى، وإن كن غير ذي محارم منهم، وأما إن كن غير متجالات فيعالجن الجرحى وإن كن غير ذي محرم منهن بحائل بينهن وبينهم، أو يأمرن غيرهن بوضع الدواء عليهم. اهـ.
والمرأة المتجالة هي: الكبيرة في السن، قال الخطابي في غريب الحديث: يُقَالُ: تجالت المرأة فهي متجالة .. إذا كبرت وعجزت. اهـ.
وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى".
وروى أيضا عن أم عطية الأنصارية قالت: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى».
وروى البخاري في الأدب المفرد عن محمود بن لبيد قال: لما أصيب أكحل سعد رضي الله عنه يوم الخندق فثقل، حولوه عند امرأة يقال لها: رفيدة - وكانت تداوي الجرحى - فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: كيف أمسيت؟، وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟ فيخبره. وانظر الفتوى رقم: 39194.
قال الدكتور محمد علي البار في بحثه (مداواة الرجل للمرأة والمرأة للرجل) المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي: الأحاديث الشريفة الواردة في إباحة مداواة النساء للرجال والرجال للنساء عند فقد الطبيب أو الطبيبة ... وما جاء في الأحاديث كان في وقت المعارك وانشغال الرجال بالقتال، فكان لابد من استنفار طاقة الأمة بأكملها وإعطاء المرأة دورها لعدم وجود الرجال ... وكذلك التداوي في وقت السلم، فإن كشف العورة وخاصة المغلظة مشروط بالضرورة أو الحاجة عند عدم وجود من يطبه من جنسه. اهـ.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني