الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إجابة الدعاء لا تدل لزاما على صحة دين أو معتقد الداعي

السؤال

قرأت شبهة من شبه اللادينيين بالصدفة، وعلقت هذه الشبهة في عقلي، حتى إني أصبحت أفكر فيها كثيرا، وأخاف أن يزول إيماني بسببها، وأكون كافرا -والعياذ بالله-؛ لذلك أود أن أطرحها عليكم حتى أجد لها جوابا يشفي صدري، ويثبت قلبي على دين الله.
فهم يقولون: "إن المسلم السني يصلي لربه، فيخشع ويشعر بارتفاع إيمانه، ويدعو ربه بشيء؛ فيتحقق له هذا الشيء، فيقول إن ربي قد استجاب لي.
والمسلم الشيعي يصلي لربه؛ فيخشع ويشعر بارتفاع إيمانه، ويدعو ربه بشيء؛ فيتحقق له هذا الشيء، فيقول إن ربي قد استجاب لي،
وكذلك يحصل مع المسيحي المتدين واليهودي والبوذي وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.
فكل منهم يشعر أن دينه وربه هو الحق، وقلبه مطمئن بذلك، ويشعر بالسكينة على هذا المعنى، ويشعر أن ربه معه، ويوفقه ويعينه وينقذه من الصعاب.
فإذا كان هناك دين واحد فقط هو الصحيح. فلماذا يشعر أصحاب الأديان الأخرى بنفس ما يشعر به صاحب الدين الصحيح، وكل منهم لديه يقين قلبي بأن دينه هو الصحيح، وأن ربه يستجيب له، ويشعر بإيمان عال، وسلام نفسي عندما يتعبد لربه الذي في دينه."
أصبحت أفكر كثيرا في هذا الموضوع، حتى اقتربت من أن يصيبني شك في ديني، والعياذ بالله.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبداية نود لفت نظر الأخ السائل إلى أن المؤمن الحق يكون عنده من العلم واليقين ما يدفع به الشبهات بالكلية، أو يخففها بحيث لا تشككه في أصل دينه، وإن كان لا يعرف لها جوابا! فيبحث عنه فيجده فيزداد إيمانا. وأما الشك والاقتراب منه، فيدل على ضعف العلم والإيمان، والحاجة الماسة للازدياد من العلم النافع والعمل الصالح، فهذا هو سبيل كمال الإيمان.
وأمر آخر نود التنبيه عليه، وهو أن تعريض المرء نفسه للشبهات، باب مهلكة وضيعة، ولاسيما مع قلة العلم، وغياب الرفقة الصالحة الناصحة، فلا تعرض نفسك لما لا تطيق، واسمع لهذه الوصية النافعة.

قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): قال لي شيخ الإسلام -رضي الله عنه- وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد-: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات -أو كما قال- فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة؛ لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل ... انتهى.
وأما إشكالك، فإنه لا يصح ابتداءً إلا مع التسليم بأن اليقين والطمأنينة، وانشراح الصدر لصحة الديانة عند المسلم وغيره سواء!! وهذا غير مسلَّم، فلا يستوي أبدا: المؤمن بالدين الحق، مع المؤمن بالباطل المصدق له العامل به، فلكلٍّ حاله التي تليق بدينه وعقيدته، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ [محمد: 1 - 3].
وقال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ. قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 49، 50].
وقال سبحانه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14] وقال أيضا: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك: 22].
وقال عز وجل: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونس: 35، 36].

فنص على اتباع الكفار للظنون والأوهام لا العلم اليقين، وهذا لا يغني عنهم من الحق شيئا.

قال الشوكاني في فتح القدير: بيَّن سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم، وعلى أي شيء بنوه، وبأي شيء اتبعوا هذا الدين الباطل، وهو الشرك، فقال: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} ..

والمعنى: ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله، وجعلهم له أندادا إلا مجرد الظن والتخمين والحدس، ولم يكن ذلك عن بصيرة، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله، وأنها تشفع لهم، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط، بل مجرد خيال مختل، وحدس باطل، ولعل تنكير الظن هنا للتحقير، أي: إلا ظنا ضعيفا لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون ... ثم أخبرنا الله سبحانه بأن مجرد الظن لا يغني من الحق شيئا؛ لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم، وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم، ولا يدرك به الحق، ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء. اهـ. وقد سبق لنا مزيد إيضاح لهذا المعنى، في الفتوى رقم: 339955.
وبقية الجواب: أن يعلم السائل أن دعاء المضطر مستجاب، من أي ملة كان، وهذا من آثار عموم ربوبية الله تعالى لجميع خلقه، فكما يرزقهم جميعا، فإنه يجيب دعاء المضطر منهم.

قال القرطبي في تفسيره: ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر. اهـ.
وقال التستري في تفسيره: الدعوة صنفان: دعاء المضطر، ودعاء المظلوم، وهي مستجابة من الناس لا محالة، مؤمناً كان أو كافراً؛ لأن الله تعالى يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ}، كقوله: {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ}، ودعاء المظلوم يرفع فوق الحجاب، ويقول الله تعالى: «وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين». اهـ.
بل إن إجابة الدعاء بصفة عامة -وليس من المضطر فقط- لا تقتصر على المؤمنين، فالله تعالى قد يجيب دعاء الكافر إذا دعاه، وهذا أيضا من عمومه رزقه وتدبيره لشئون خلقه، ولا يدل على رضاه عنهم، أو حبه لهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التوسل والوسيلة: الخلق كلهم يسألون الله، مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار، فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا، وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم، فإنهم ناس مخصوصون. اهـ.

وقال بعدها: إبرار القسم خاص ببعض العباد، وأما إجابة السائلين فعام، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدَّخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشرّ مثلها" قالوا: يا رسول الله إذن نكثر. قال: "الله أكثر". اهـ.

وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان: الله سبحانه يجيب دعوة المضطر، ولو كان كافرا. وقد قال تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} [الإسراء:20]. وقد قال الخليل: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر}، فقال الله سبحانه وتعالى: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} [البقرة: 126].

فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه، ولا محبا له، ولا راضيا بفعله، فإنه يجيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني