الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما يجوز للمرأة أن تنظر إليه من بدن الأجنبي

السؤال

هل صحيح أن هناك رأيًا فقهيًّا يقول: إن عورة الرجل أمام المرأة هي كل جسمه، ما عدا الوجه والكفين، أي: أنه مطالب بالحجاب مثل المرأة تمامًا؟ حيث صرح أحد من ينتسبون للعلم: أن هناك ثلاثة آراء في عورة الرجل، ومنها رأي يقول: إن عورة الرجل كل جسمه، عدا الوجه والكفين.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنا لم نر من صرح من أهل العلم بوجوب ستر الرجل بدنه كله عن النساء، بل إن كلام أهل العلم في تحديد عورة الرجل منحصر فيما بين السرة والركبة، وانظر للفائدة الفتويين التاليتين: 136124 - 134939.

ولعل من قال بما ذكرت، اشتبهت عليه أقوال أهل العلم في هذه المسألة، مع أقوالهم فيما يجوز للمرأة أن تراه من الرجل الأجنبي، فقد اختلف أهل العلم في حدود ما يجوز للمرأة أن تنظر إليه من بدن الأجنبي.

وقد سيقت أقوالهم مفصلة في الموسوعة الفقهية، ننقلها لتمام الفائدة: ذهب الحنفية في الصحيح، والمالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن نظر المرأة إلى أي عضو من أعضاء الرجل الأجنبي يكون حرامًا، إذا قصدت به التلذذ، أو علمت أو غلب على ظنها وقوع الشهوة، أو شكت في ذلك، بأن كان احتمال حدوث الشهوة وعدم حدوثها متساويين؛ لأن النظر بشهوة إلى من لا يحل بزوجية، أو ملك يمين، نوع زنا، وهو حرام عند جميع الفقهاء.

وفي مقابل الصحيح عند الحنفية، ما ورد في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن أنه يستحب للمرأة أن تغض بصرها عما سوى العورة من الرجل، إذا علمت وقوع الشهوة، أو غلب على ظنها ذلك، أو شكت فيه، بمعنى أن نظرها في هذه الحالة يكون مكروهًا وليس محرمًا، بخلاف الرجل، فإن نظره إلى ما يحل له النظر إليه من المرأة بدون شهوة يحرم إذا كان مع الشهوة، أو غلب على ظنه وقوعها، أو شك في ذلك ...

أما إذا كان نظر المرأة إلى الأجنبي بغير شهوة يقينًا، فقد اختلف الفقهاء فيما يحل لها النظر إليه منه وما لا يحل، على أربعة أقوال:

الأول: يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما سوى عورته، أي: إلى ما فوق السرة وتحت الركبة، حيث اتفقوا على أن ذلك ليس بعورة من الرجل، وأما السرة، والركبة، والفخذ منه، ففي كونها من العورة خلاف بين الفقهاء، فمن اعتبر شيئًا من ذلك عورة، قال بعدم جواز نظر المرأة إليه، ومن لم يعتبره كذلك، قال بالجواز. وإلى هذا القول ذهب الحنفية في الأصح، والشافعية في الأصح أيضًا، والحنابلة في المذهب، واستدلوا عليه بالسنة، والمعقول:

أما السنة: فقد استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك"، ولحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد. كما استدلوا بما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من خطبة العيد، أتى إلى النساء ومعه بلال، فوعظهن وذكرهن، وأمرهن بالصدقة، قال ابن عباس: فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته.

ومن المعقول: استدلوا بأن النساء لو منعن من النظر إلى الرجال مطلقًا؛ لوجب على الرجال الحجاب، كما وجب على النساء، ولأن ما ليس بعورة يستوي في حكم النظر إليه الرجال والنساء ما دام بغير شهوة، كالثياب، والدواب، فكان للمرأة أن تنظر من الرجل ما ليس عورة، كما له أن ينظر منها ما ليس بعورة عند عدم الخوف من الفتنة، واستدلوا أيضًا بأن النساء كن يحضرن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولا بد أن يقع نظرهن إلى الرجال، فلو لم يجز لم يؤذن لهن بحضور المسجد والمصلى.

القول الثاني: أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي، حكمه كحكم نظر الرجل إلى محارمه، فيحل لها أن تنظر من الرجل إلى مثل ما يحل له أن ينظر من ذوات محارمه، ويحرم النظر إلى ما عدا ذلك، وذهب إلى هذا القول الحنفية في مقابل الصحيح، وهي رواية الأصل لمحمد، والمالكية، والحنابلة في رواية، وللشافعية وجه قريب من هذا القول، وهو أنه يحل لها النظر إلى ما يبدو منه في المهنة.

ووجه هذا القول: أن حكم النظر عند اختلاف الجنس، غلظ في الشرع عن حكمه عند اتحاد الجنس؛ مما يقتضي أن يكون نظر المرأة إلى الرجل أغلظ في الحكم من نظر الرجل إلى الرجل، وإن كانت عورته لا تختلف، حتى إنه لا يباح للمرأة أن تغسل الرجل بعد موته، ولو كانت هي في النظر إليه كالرجل في النظر إلى الرجل؛ لجاز لها أن تغسله بعد موته.

القول الثالث: أن حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي كحكم نظره إليها، فلا يحل أن ترى منه إلا ما يحل له أن يرى منها، وهذا هو قول الشافعية في مقابل الأصح، ورواية عن أحمد، قدمها في الهداية، والمستوعب، والخلاصة، والرعايتين، والحاوي الصغير، وقطع بها ابن البنا، واختاره ابن عقيل، لكن النووي جعله هو الأصح من مذهب الشافعية، تبعًا لجماعة من الأصحاب، وما قطع به صاحب المهذب.

وقد تقدم أن القول الصحيح الذي عليه الفتوى عند الشافعية، أن الرجل لا يحل له أن ينظر من المرأة الأجنبية الشابة إلى أي شيء من بدنها، وأن مقابله جواز نظره إلى الوجه والكفين مع الكراهة.

وبناء على القول الصحيح في حكم نظر الرجل إلى المرأة؛ يكون مقتضى هذا القول في حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي هو التحريم مطلقًا، لكن قال الجلال البلقيني: هذا لم يقل به أحد من الأصحاب، واتفقت الأوجه على جواز نظرها إلى وجه الرجل وكفيه عند الأمن من الفتنة.

واستدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}، فقد أمر الله تعالى النساء بغض أبصارهن كما أمر الرجال، واستدلوا بما روي "عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله، أليس هذا أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟"، فلو كان نظر النساء إلى الرجال مباحًا لما أمرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب عن ابن أم مكتوم -رضي الله عنه- وهو أعمى، ولما أنكر عليهما النظر إليه.

واستدلوا بالمعقول، وهو: أن النساء أحد نوعي الآدميين، فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر، قياسًا على الرجال، يؤيده أن المعنى المحرم للنظر هو خوف الفتنة، وهو متحقق في نظر المرأة إلى الرجال، بل أشد شهوة، وأسرع افتتانًا.

القول الرابع: أنه يكره للمرأة أن تنظر إلى وجه الرجل، وكفيه، وقدميه، ولا يحرم عليها، وإنما يحرم عليها النظر إلى ما سوى ذلك، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، واعتبره ظاهر كلام أحمد، والقاضي. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني