الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

استشكال حول حديث في الشفاعة وبيان الصواب فيه

السؤال

في المحشر، والناس يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشفعوا به في بدء الحساب. فيقول له الله: أخرج من النار من كانت صفته كذا. ومعلوم أن إخراج الموحدين من النار، يكون بعد الحساب، وليس في يوم المحشر.
من ناحية أخرى: الناس طلبوا منه الشفاعة ببدء الحساب، بينما هو لم يدع بذلك، بل قال: أمتي، وليس في النص ذكر أن الله أمر ببدء الحساب.
ثالثا: ظاهر الحديث أن كل الناس طلبوا ذلك منه، بينما هو لما دعا، قال: يا رب أمتي، ولم يدع للباقين.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما أشار إليه الأخ السائل إشكال وجيه! وقد أورده الشراح قديما، وأجابوا عنه بما خلاصته:

أن الشفاعة أنواع، وتحصل في مواقف، ولأغراض متعددة، وبعض الرواة حفظ ما لم يحفظه غيره، وبعضهم روى الرواية باختصار مشكل، ومنها الرواية التي أشار إليها السائل، وهي من حديث أنس مرفوعا: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها .. – فذكر الحديث المشهور إلى أن يأتوا النبي الخاتم محمدا صلى الله عليه وسلم. قال: - فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدا، فيقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ... الحديث رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال الداودي: كأن راوي هذا الحديث ركب شيئا على غير أصله! وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار. يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف، والمرور على الصراط، وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي!! وقد أجاب عنه عياض وتبعه النووي وغيره، بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله: "فيأتون محمدا فيقوم ويؤذن له -أي في الشفاعة - وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق .. " الحديث.

قال عياض: فبهذا يتصل الكلام؛ لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج. وقد وقع في حديث أبي هريرة بعد ذكر الجمع في الموقف، الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتب معانيها. قلت: فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه: "حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا، وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوش في النار" فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضى بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك، وقد وقع ذلك صريحا في حديث ابن عمر، اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولا، وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه، بلفظ: "إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد، فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيؤمئذ يبعثه الله مقاما محمودا، يحمده أهل الجمع كلهم".

ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى: "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم، فيمرون" وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد: "فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا رب عجل حسابهم" وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى: "فأقول: أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته .." الحديث ..

وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار: الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رؤوسهم، وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها. قلت: وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال: إنه يقع إخراجان، وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه، والمراد به الخلاص من كرب الموقف. والثاني في حديث الباب الذي يليه، ويكون قوله فيه: "فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه" بعد تمام الخلاص من الموقف، ونصب الصراط، والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا ... وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة، عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "فأقول يا رب أمتي، أمتي! فيقال: أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب"

قال: في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه، دل على تأخير من عليه حساب ليحاسب.

ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى: "فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة. فيقول الله: وقد شفعتك فيهم، وأذنت لهم في دخول الجنة". قلت: وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي: ليتبع كل أمة من كانت تعبد. فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين، فيسقطون في النار أيضا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط، ويوقف بعض من نجا عند القنطرة للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة ..

ثم وقفت في تفسير يحيى بن سلام البصري، نزيل مصر ثم إفريقية، وهو في طبقة يزيد بن هارون، وقد ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. وقال أبو زرعة: ربما وهم. وقال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه.

فنقل فيه عن الكلبي قال: إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، بقيت زمرة من آخر زمر الجنة، إذا خرج المؤمنون من الصراط بأعمالهم، فيقول آخر زمرة من زمر النار لهم، وقد بلغت النار منهم كل مبلغ: أما نحن فقد أخذنا بما في قلوبنا من الشك والتكذيب، فما نفعكم أنتم توحيدكم؟! قال: فيصرخون عند ذلك يدعون ربهم، فيسمعهم أهل الجنة، فيأتون آدم - فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء المذكورين قبلُ واحدا واحدا إلى محمد صلى الله عليه وسلم - فينطلق، فيأتي رب العزة فيسجد له، حتى يأمره أن يرفع رأسه ثم يسأله: ما تريد؟ وهو أعلم به، فيقول: رب أناس من عبادك أصحاب ذنوب لم يشركوا بك، وأنت أعلم بهم، فعيرهم أهل الشرك بعبادتهم إياك! فيقول: وعزتي لأخرجنهم. فيخرجهم قد احترقوا، فينضح عليهم من الماء حتى ينبتوا، ثم يدخلون الجنة، فيسمون الجهنميين، فيغبطه عند ذلك الأولون والآخرون. فذلك قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}. قلت: فهذا لو ثبت لرفع الإشكال! لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة، أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحدا بعد واحد، إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة. اهـ.
وزيادة على ما سبق في ما يخص عبارة: "أمتي، أمتي" في حديث أنس السابق.

قال ابن الملقن في التوضيح: فأقول: "أنا لها"، وزاد هنا فيقول: "يا رب أمتي أمتي" وليس هو في أكثر الروايات، قال الداودي: ولا أراه محفوظا؛ لأن الخلائق اجتمعوا واستشفعوا، ولو كانت هذه الأمة لم تذهب إلى غير نبيها، وأول هذا الحديث ليس متصلا بآخره من قوله: "اشفع تشفع"، مع ذكر أكثر أمور الآخرة، وإنما أتى فيه بأول الأمر وآخره، بقي فيه: "لتذهب كل أمة مع من كانت تعبد". وبقي حديث النجوى، وحديث: يؤتي بجهنم، وحديث ذكر الموازين والصراط وسائر الصحف، والخصام بين يدي الرب -جل جلاله-، وأكثر أمور يوم القيامة هي فيما بين أول هذا الحديث وآخره. اهـ.
وقال العيني في عمدة القاري: قيل: الطالبون للشفاعة منه عامة الخلائق، وذلك أيضا للإراحة من هول الموقف، لا للإخراج من النار؟؟!!

وأجاب القاضي عياض وقال: المراد فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها في إزالة الهول، وله شفاعات أخر خاصة بأمته، وفيه اختصار.

وقال المهلب: "فأقول: يا رب أمتي أمتي" مما زاد سليمان بن حرب على سائر الرواة، وقال الداودي: ولا أراه محفوظا. ونقل بقية كلامه السابق. اهـ.

وانظر للفائدة الفتوى رقم: 57726.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني