الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

أريد أن أعرض عليكم مشكلتي، التي تنغص حياتي وتؤرقني، وتجعلني في ضياع وتفكير مستمر لا يتركني أنام. وفي بعد عن ربي، ولم أكن كذلك من قبل.
أنا فتاة في 27 من عمري، كنت منذ صغري محجبة ومحتشمة بلباسي، وحافظة لكتاب الله، وملتزمة بصلاتي، وبحلقات العلم، ولم أحدث في عمري شابا، ولم أسمح لأحد في يوم أن يتكلم معي، ولا أسمح حتى لصديقاتي بالتكلم بهذه الأمور والمحرمات. وكانت قاعدتي أن الطيبين للطيبات، ويجب أن أكون عفيفة طاهرة؛ ليكون زوجي كذلك. وكنت كذلك والحمد لله بشهادة كل من حولي، ومحط احترام وتقدير الجميع من حولي، ولم يشأ الله لي الزواج لأسباب عائلية.
بالإضافة إلى أنني كنت أعلم أنني عاطفية جدا، وأحب وأتعلق بسرعة؛ لذلك كنت أوجه هذه المحبة لمعلماتي في الدين، ولا أقترب من الشباب أبدا.
ووقعت مرة في مشكلة عائلية اضطررت فيها للجوء لصديق للعائلة، وكان هو في بلد وأنا في بلد آخر. ولله الحمد لم نجتمع أبدا في بلد واحد.
ساعدني كثيرا، وتحملني كثيرا، وكنا نتكلم بمنتهى الاحترام، ولا نخرج عن الحدود، وكنت أنا في وضع نفسي سيئ، ومنهارة عاطفيا ونفسيا بسبب صدمة تعرضت لها، ومع الوقت تعلقت به دون أن نتكلم بأي شيء، ولكني أحسبه كان يشعر بتعلقي به؛ لأنه فجأة طلب أن يراني، وأصبح يطلب أشياء أخرى على المكالمة. وأنا لشدة تعلقي به، ولا أدري كيف لبيت طلباته، ورأى مني ما رأى دون أن نجتمع في مكان واحد.
لا أبرر لنفسي خطأها، ولكني كنت أخاف أن أفقده، ودام هذا الأمر لأسبوع. ومن ثم قال لي نحن يجب أن نتوقف عن الكلام؛ فأنت طاهرة نقية كمريم، ولم أرد الخطأ معك، ولكن ضعفت إرادتي، ولا أمل لنا أن نرتبط، فكل منا في بلد، وأنا الآن أبحث عن زوجة في بلدي.
بعد أول خطأ انهرت، وكاد يقتلني تأنيب الضمير: كيف فعلت ذلك، ولكني لم أكن قادرة على التوقف. وبعد كلامه هذا توقفنا قرابة شهرين عن الكلام، وندمت وطلبت من ربي أن يغفر لي، ويعفني عن الحرام. ولكنني ضعفت وعدت لكلامه، ظنا مني أن إرادتي قوية ولن أضعف أمامه، ولكني عدت لأضعف أمامه، ولم أستطع مقاومة طلبه، ودام ذلك لأسبوع، ثم قرر هو أن يتوب، وقد وجد فتاة ليخطبها في بلده، وأنه لا يريد أن يتعلق بي، وتختلط مشاعره.
يعلم الله أني دعوت ربي كثيرا، وبكيت كثيرا؛ ليقويني، ويقوي إرادتي، ويكبح عواطفي ومشاعري؛ لأني لا أستطيع التحكم بها، وأنا فقط كنت أريد الكلام معه، ولا أريد المحرمات، وأعلم أن كلامي معه حرام، ولكني تعلقت به.
ودعوت ربي أن يرسل لي الزوج الصالح الذي يصونني ويعفني، وتستقر معه نفسي، ولم أعد أكلم ذلك الشاب، وفعلا جاءني خاطب، وظننت أن ربي استجاب دعائي، ولكن لم تستمر الأمور ولم يتم الأمر.
سؤالي لكم: أشعر أن الله لم ولن يقبل توبتي؛ لأنني لست من توقف عن الذنب، بل لم أعد أستطيع فعل الذنب، ولا أن أكلمه؛ لأنه لا يريد أن يكلمني. وأنني لو أرسلت له لن يرد علي، أشعر أني منافقة، وأكذب على نفسي في توبتي؛ لأني لم أقلع عن الذنب بإرادتي، فإرادتي كانت ضعيفة. وكلما حاولت أن أقنع نفسي أني سأكلمه ولن أقع في الخطأ؛ لأنني تبت وأختبر توبتي، أفشل.
فهل يقبل الله توبتي ولو لم أكن أنا من أقلع عن الذنب، بل لم أعد أستطع فعله؟
وهل لأنني ارتكبت هذا الخطأ لن يأتيني الزوج الصالح، أو أني لن أتزوج، فمن تعجل شيئا قبل أوانه، عوقب بحرمانه؟
هل ما حدث معي في الخاطب الذي جاءني ولم يتم الأمر عقاب من الله؟
كيف في حالتي التوبة؟ وأنا في كل الموضوع لم أرد الحرام ولست كذلك، ولكني كنت أضعف ولا أدري كيف بدر مني ما لا يليق بفتاة مسلمة مثلي!
ولكن يهمني الآن كيف أجعل توبتي صحيحة، بالرغم من أنني لست من أقلع عن الذنب، وبالرغم من أنني في بعض الأحيان أشتاق وأحن للحديث معه، ولكنني في الوقت نفسه نادمة على ذنبي، وأخاف من عقاب ربي، وأشعر بوحشة شديدة وبعد عن ربي.
عذرا على الإطالة.
أفيدوني جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد أنعم الله عز وجل عليك بنعم عظيمة، ونعني هنا على وجه الخصوص نعمة الاستقامة على الطاعة، والمحافظة على الصلاة، والتزام الحشمة والحجاب، والحفظ لكتاب الله سبحانه، فأعظم بهذه النعم!

ويبدو أن الشيطان قد وجد منك لحظة غفلة، تسلط من خلالها عليك، وساقك إلى معصية الرحمن بحيلته وخداعه، وهو كذلك يفعل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {النور:21}.

ووصيتنا لك في البدء أن تتضرعي إلى ربك، وتسأليه أن يزكي نفسك، ويرزقك التوبة والأوبة إليه، فتوبة عبده تسبقها توبة منه عليه، فيوفقه ليتوب ويقبل منه توبته، قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {التوبة:118}.

قال ابن القيم: فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا ومقتضيًا لتوبتهم، فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم... اهـ.

وإذا صدقت مع ربك صدقك، فلو علم مما في قلبك أنك تريدين التوبة، وفقك إليها، قال سبحانه: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ {محمد:21}.

وثبت في سنن النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بعض أصحابه: صدق الله؛ فصدقه.

فبادي إلى التوبة، وأري الله عز وجل منك خيرا، وشروط التوبة سبق وأن بيناها في الفتوى رقم: 5450، ولا يضر كونه هو الذي ابتعد عنك ولم تكوني أنت المبادرة في هذا الجانب، فإذا نويت تركه صادقة في ذلك، ونادمة على ما مضى، وعازمة على عدم العود لمثل هذا الذنب فتوبتك صحيحة. فبادري إليها وأحسني الظن بربك، فهو الغفار لذنوب عباده المحب لتوبتهم ورجوعهم إليه، ويقبل توبة التائبين، قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82}، وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه. ولا يلزم أن يكون إعراض الخاطب المذكور عقابا من الله تعالى لك، أو أن يكون ما ارتكبت من ذنب مانعا لك من الزواج، وخاصة إن تبت منه توبة صادقة، فالزواج رزق كغيره من الأرزاق سيأتي المسلم ما كتب الله له منه، فاحرصي على سؤال الله سبحانه أن يرزقك الزوج الصالح، ولا يغيب عن ذهنك أن استقامة المرأة وحشمتها، غالبا ما تكون من أعظم دواعي رغبة الخطاب فيها.

وننبه في الختام إلى أن المسلم لو قدر له أن تاب توبة نصوحا مستوفية الشرائط التي سبقت الإشارة إليها، ثم ضعف وعاد للذنب مرة أخرى، فعليه أن يعاود التوبة، ولا ييأس أو يجعل للشيطان سبيلا ليوقعه في القنوط من رحمة الله، روى البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـصلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: اعمل ما شئت.

قال النووي: وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة، بل ألفاً وأكثر، وتاب في كل مرة قبلت توبته...... اهـ.

ونرجو في الختام أن تستفيدي من بعض التوجيهات في الفتاوى بالأرقام: 1208، 10800، 12928.

وفقك الله لكل خير، وجنبك كل شر، ويسر لك زوجا صالحا وذرية طيبة، تقر بها عينك.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني