الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

ما حكم الكذب بغية الدفاع عن الغير؟ وما حكمه إن كان لأجل إخفاء معلومات خاصة بخصوصنا، أو بخصوص الغير؟ فمثلًا: هناك شخص يتصدق، ويريد أن تبقى هذه الصدقة بينه وبين الله، فإذا سأله الناس: هل تصدق أم لا؟ يكذب، وينكر أنه فعل، فهل هذا جائز؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فالدفاع عن الشخص إن كان في حق، جاز الكذب من أجل إنقاذه من الهلكة، أو الضرر، أو الظلم الواقع عليه. وإن كان الدفاع عنه في باطل، لم يجز الكذب.

وقد سبق أن أصدرنا عدة فتاوى في بيان الحالات التي يجوز فيها الكذب، وما فيها يغني عن الإعادة هنا؛ فانظري الفتاوى التالية أرقامها: 62701، 39152، 63123، 48814.

وقد اعتبر بعض الفقهاء أن الكذب لأجل إخفاء الصدقة، داخل في الحاجة المبيحة له، جاء في حاشية البجيرمي عن صدقة السر: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسِّرِّ فِيمَا يَظْهَرُ مَا قَابَلَ الْجَهْرَ فَقَطْ، بَلْ الْمُرَادُ أَنْ لَا يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِأَنَّ هَذَا الْمَدْفُوعَ صَدَقَةٌ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ شَخْصٌ دِينَارًا مَثَلًا، وَأَفْهَمَ مَنْ حَضَرَهُ أَنَّهُ عَنْ قَرْضٍ عَلَيْهِ، أَوْ عَنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ مَثَلًا، كَانَ مِنْ قَبِيلِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ سِرًّا، لَا يُقَالُ: هَذَا رُبَّمَا امْتَنَعَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا لِمَصْلَحَةٍ وَهِيَ الْبُعْدُ عَنْ الرِّيَاءِ، أَوْ نَحْوِهِ. وَالْكَذِبُ قَدْ يُطْلَبُ لِحَاجَةٍ، أَوْ مَصْلَحَةٍ، بَلْ قَدْ يَجِبُ لِضَرُورَةٍ اقْتَضَتْهُ. اهـ.

ولا شك أن استعمال المعاريض أولى من الكذب، ما دامت ممكنة، ويتحقق بها المقصود، أي: إخفاء الصدقة، جاء في الموسوعة الفقهية: الْمَعَارِيضُ فِي الْكَلاَمِ هِيَ التَّوْرِيَةُ بِالشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَفِي الْحَدِيثِ: {إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ}.

وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَا فِي الْمَعَارِيضِ مَا يَكْفِي الرَّجُل عَنِ الْكَذِبِ؟ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ. وَهَذَا إِذَا اضْطُرَّ الإْنْسَانُ إِلَى الْكَذِبِ لِتَجَنُّبِ إِفْشَاءِ السِّرِّ .. اهـ.

وجاء فيها أيضًا: وَمِثَال التَّعْرِيضِ: مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ عَامِلاً لِعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا جِئْتَ بِهِ مِمَّا أَتَى بِهِ الْعُمَّال إِلَى أَهْلِهِمْ؟ وَمَا كَانَ قَدْ أَتَاهَا بِشَيْءٍ، فَقَال: كَانَ عِنْدِي ضَاغِطٌ (يعني رقيبًا عليه) قَالَتْ: كُنْتَ أَمِينًا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَبَعَثَ عُمَرُ مَعَكَ ضَاغِطًا؟!! وَقَامَتْ بِذَلِكَ بَيْنَ نِسَائِهَا، وَاشْتَكَتْ عُمَرَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ دَعَا مُعَاذًا وَقَال: بَعَثْتُ مَعَكَ ضَاغِطًا؟ قَال: لَمْ أَجِدْ مَا أَعْتَذِرُ بِهِ إِلَيْهَا إِلاَّ ذَلِكَ، فَضَحِكَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَعْطَاهُ شَيْئًا، فَقَال: أَرْضِهَا بِهِ ... وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (ضَاغِطًا) يَعْنِي رَقِيبًا، وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ... وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا طَلَبَهُ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الدَّارِ، قَال لِلْجَارِيَةِ: قَوْلِي لَهُ: اطْلُبْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلاَ تَقُولِي: لَيْسَ هُنَا كَيْ لاَ يَكُونَ كَذِبًا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَلاَ .. اهـ.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني