الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المقصود بقول النبي في بيعة العقبة الثانية: وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ

السؤال

جاء في بيعة العقبة الثانية أن المبايعة كانت على عدة أمور؛ منها: السمع والطاعة والنفقة، ما المقصود بالنفقة هنا، لا أظنها الزكاة والصدقة، بل أظنها النفقة على الدولة النبوية الناشئة، التي تقوم ضريبة الأمن والبناء محلها اليوم؟ فليس كل ضريبة مكس؟ ما قولكم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فنقول ابتداء: سبق أن بينا في عدة فتاوى أن الضرائب التي تفرض للمصلحة العامة، وليس فيها اعتداء ولا ظلم، أن هذا النوع من الضرائب مشروع، وعلى الشخص الانقياد له، ولا يجوز له التهرب منه، فليس كل ضريبة تفرضها الدولة تعتبر مكسا محرما، وانظر الفتوى رقم: 69979، والفتوى رقم: 8574.
وأما النفقة الواردة في بيعة العقبة الثانية، فقد جاءت عدة روايات تبين البنود التي وقعت عليها البيعة، وكان من تلك البنود ما جاء في وراية أحمد ـــ واللفظ له ـــ وابن حبان والحاكم وغيرهم: تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ... إلخ .
والنفقة هنا عامة لم تقيد، ولم نجد من فسرها بنفقة معينة، ولكن الذي يظهر من سياق قصة البيعة أن المراد بها هنا النفقة في الجهاد، فسياق قصة البيعة، والبنود التي جاءت بها الأحاديث جاءت في الاستعداد للجهاد والقتال في سبيل الله، وأنهم سيحاربون الأبيض والأسود، وسترميهم العرب عن قوس واحدة، ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكلام: تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ .... إلخ وأراد أهل البيعة وضعَ أيديهم في يده الشريفة لإتمام البيعة، قام أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ مذكرا لهم بما يترتب على البيعة ومنشطا لعزائمهم، فَقَالَ:
رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ؛ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا ... إلخ.
فأقرب ما تفسر به النفقة هنا في هذا السياق هو النفقة في الجهاد، وهذا موافق لقول الله تعالى في سورة البقرة: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ {البقرة:195}، فقد قال جمع من العلماء إنها نزلت في النفقة في الجهاد، قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ـ أراد به الجهاد، وكل خير هو في سبيل الله، ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد ... اهـ.
وقال الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {الحديد:10}، ـ الإِنفاق في سبيل الله بمعناه المشهور وهو الإِنفاق في عتاد الجهاد لم يكن إلا بعد الهجرة، فإن سبيل الله غلب في القرآن إطلاقه على الجهاد .. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره لعدة آيات وآخرها قوله تعالى{ .... وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:193-195) قال: فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله، وإنفاق المال في سبيل الله .... اهـ.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني