الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من مات ولم يتب فهل يمكن أن لا يعذب في القبر وما بعده؟

السؤال

مات ولم يتب من كبيرة، فهل يمكن أن ينجو ولا يعذب نهائيًّا في القبر وجهنم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فمن مات من الموحدين على كبيرة لم يتب منها، فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء غفر له، ونجّاه من العذاب، وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم أدخله الجنة بتوحيده؛ فإن التوحيد أعظم أسباب النجاة والمغفرة، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده، فقد المغفرة، ومن جاء به، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض -وهو ملؤها، أو ما يقارب ملأها- خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة. اهـ.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: عقيدة أهل السنة والجماعة أن من مات من المسلمين مصرًّا على كبيرة من كبائر الذنوب، كالزنى، والقذف، والسرقة، يكون تحت مشيئة الله سبحانه: إن شاء الله غفر له، وإن شاء الله عذبه على الكبيرة التي مات مصرًّا عليها، ومآله إلى الجنة؛ لقوله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وللأحاديث الصحيحة المتواترة الدالة على إخراج عصاة الموحدين من النار، ولحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، وقرأ آية النساء- يعني الآية المذكورة، وأكثر لفظ سفيان قرأ الآية: «فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب في ذلك شيئًا، فعوقب، فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئًا من ذلك، فستره الله، فهو إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. اهـ.

وراجع في ذلك الفتويين: 173609، 244813.

وهذه المشيئة لا تقتصر على عذاب جهنم، بل تشمل في الظاهر عذاب القبر، وأهوال يوم القيامة، وانظر الفتوى رقم: 36130.

وعلى ذلك؛ فمن مات على كبيرة لم يتب منها، يمكن أن ينجو من العذاب نهائيًا -إذا شاء الله تعالى ذلك-، فهذا ليس بممتنع، ولا يتعارض مع استحقاق صاحب الكبيرة للعذاب في القبر؛ لأنه إنما نجا بعفو الله تعالى، ومغفرته، ورحمته. وقد يجتمع مع ذلك سبب آخر لرفع العذاب عنه، كحسناته التي عملها في الدنيا، أو ما يهديه له المؤمنون الأحياء من أعمال البر، أو دعائهم له، وصلاتهم عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان الأوسط: قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد، بنحو عشرة أسباب:

- أحدها: التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين ..

- السبب الثاني: الاستغفار ..

- السبب الثالث: الحسنات الماحية ..

- السبب الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته ..

- السبب الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر؟ كالصدقة، ونحوها ...
...
- السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا ..
...
- السبب العاشر: رحمة الله، وعفوه، ومغفرته بلا سبب من العباد، فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة، كان دعواهم أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة، مخالف لذلك. اهـ.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي؟

فأجاب: نعم، قد يخفف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستبرئ -أو قال- لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"، ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"، وهذا دليل على أنه قد يخفف العذاب. اهـ.

ولا يخفى أن هذا الجواب إنما هو عن إمكان نجاة من مات على كبيرة، لا عن حصولها، فإنه يبقى على أية حال على خطر المشيئة، وينبغي أن تبقى نصوص الوعيد على ظاهرها دون تأويل، مع إعمال قواعد أهل السنة في الجمع بين النصوص، وراجع في ذلك الفتويين التاليتين: 117821، 232246.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني